مسرحية "الصفقة".. توفيق الحكيم يهزم الفصحى بالعامية
في ذكرى مرور 31 عاما على رحيل توفيق الحكيم الملقب بـ"أبو المسرح العربي" و"راهب الفكر".. "العين الإخبارية" تقدم قراءة في مسرحية الصفقة
لعلنا في ذكرى رحيل "أبو المسرح العربي" الكاتب الكبير توفيق الحكيم في حاجة ماسة لاستعادة مشروعه الأدبي والفكري، فقد قدم لنا نصوصا مرجعية في فن الرواية وفن المسرح. وبرغم مرور 31 عاما على رحيله، فإن أعماله تظل تراثا مرجعيا لكل مشتغل ومهموم بالفن والأدب أو حتى عاشق له.
تلك الحاجة الماسة التي تدفع الكثير من الأدباء والكتاب للبحث والتنقيب عن أعماله كانت لا تسفر عن شيء، فقد نفدت كل طبعات أعماله من المكتبات المصرية والعربية. وهو الأمر الذي دفع دار "الشروق" المصرية لإعادة طبع باقة من أعماله المسرحية والكتب التي تجمع مقالاته الثمينة في طبعات جديدة منمقة وفاخرة.
رحل توفيق الحكيم عن عالمنا 26 يوليو 1987 عن عمر يناهز 88 عاما. وترك لنا أكثر من 50 مسرحية ومن بين هذه الأعمال التي طبعتها "دار الشروق" المصرية طبعة جديدة من مسرحية "الصفقة" لتوفيق الحكيم، هذه المسرحية التي تعكس تحولا كبيرا على صعيد فن المسرح المصري وأيضا على صعيد المجتمع المصري نفسه بكل جوانبه الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
تقع أحداث المسرحية في حوالي 120 صفحة من القطع الصغير وقد برع الحكيم بالطبع في تطويع اللغة العامية الخاصة بمجتمع الريف المصري لجعل متعة قراءة المسرحية للقارئ العادي والفنان المسرحي متعة لا تضاهى.
وتدور أحداث "الصفقة" في ساحة قرية صغيرة من قرى "القطر المصري" بحسب تقديم توفيق الحكيم لها، وهي تتحدث عن ولع الفلاحين المصريين بشراء الأراضي وتملكها وما يتبع ذلك من جشع وتخلٍ عن القيم والمبادئ في سبيل الحفاظ على الأرض. يقول سعداوي أحد أبطال "الصفقة": "العيال في إيدينا يا عوضين.... لكن الأرض؟!... الأرض في يد غيرنا.... الخوف عليها تروح للغريب!" أبطال مسرحية الصفقة يناضلون ضد ما بقي من طبقة الباشاوات ويضحوا بالغالي والنفيس (مهر زواج الأبناء، وجهاز الفتيات، وبعضهم يضطر للسرقة، أو حتى يبدي استعداده للقتل) في سبيل امتلاك الأرض!
تعكس "الصفقة" تأثر الحكيم بتلك الفترة من حياته التي قضاها في الريف المصري بسبب عمله في القرى المصرية في الفترة ما بين 1928 و1934، وذلك عقب عودته من باريس، والتي نتج عنها عدة أعمال مسرحية وروائية مثلت مشروعا أدبيا قدم فيه الحكيم مرآة للواقع المصري في مرحلة حرجة انتقلت فيها مصر من النظام الملكي إلى الجمهوري، وأدت لتحولات كبيرة في الساحة الثقافية، لكنها كانت أكثر تأثيرا على الجوانب الاجتماعية والاقتصادية، خاصة مع القضاء على النظام الإقطاعي وحيازة الأراضي التي كانت محصورة في طبقة معينة وكانت طبقة الفلاحين طبقة تابعة.
"الصفقة".. حل لمشكلات المسرح العربي
من هنا تأتي أهمية المسرحية، من وجهة نظري، في رصد هذا التحول الاجتماعي الكبير في مجتمع الريف المصري الذي كان قد عانى سنوات من قمع وظلم أصحاب الأراضي والطبقة الأرستقراطية في مصر.
أبطال المسرحية يعكسون الحياة الريفية بكل تفاصيلها فنجد "المعلم شنودة" صراف الناحية، وعوضين وسعداوي ومحروس ومبروكة وخميس، وشخوص أخرى فضل الحكيم أن تظل بلا اسم، هي: البك، والوكيل، والعجوز والحلاق.
تعد هذه المسرحية البديعة تحولا في كتابة النص المسرحي المصري، خاصة أن الحكيم بأسلوبه المتمكن ورغبته في تخطي التحديات الكثيرة أمام تأثر المسرح المصري بالغربي والإنجليزي تحديدا، استطاع أن يقدم نصا بسيطا وتغلب على مشكلة الأداء المسرحي الباهت فيما يعد نصا من نصوص مسرح الشارع أو المسرح الواقعي، فقد قال الحكيم عنها إنها مسرحية صالحة للتمثيل في أي وقت وفي أي مكان فهي ليست بحاجة لخشبة مسرح أو ديكور وملابس.
إشكالية اللغة المسرحية بين العامة والفصحى
ذيلت طبعة " الصفقة" ببيان كتبه الحكيم في سبتمبر 1956. وتكمن أهمية البيان في كونه يسلط الضوء على مشكلات المسرح المصري آنذاك، وتحديدا مشكلة " ثنائية اللغة". فقد حاول توفيق الحكيم من خلال "الصفقة" أن يجعلها حقل تجارب لحل مشكلات المسرح المصري. يقول الحكيم: "كانت، ولم تزل، مسألة اللغة التي يجب استخدامها في المسرحية المحلية، موضع جدل وخلاف. وقد كثر الكلام حول العامية والفصحى، وقد سبق لي أن خضت التجربة مرتين في محيط واحد هو: محيط الريف المصري. كتبت مسرحية "الزمار" بالعامية، وكتبت مسرحية "أغنية الموت" بالفصحى"
يشير الحكيم إلى أن المشكلة لم تحل؛ لأن استخدام الفصحى يجعل المسرحية مقبولة في القراءة ولكنها عند التمثيل تستلزم الترجمة إلى اللغة التي يمكن أن ينطقها الأشخاص" بينما يلفت إلى أن " استخدام العامية يقوم عليه اعتراض وجيه: هو أن هذه اللغة ليست مفهومة في كل زمن، ولا في كل قطر، بل ولا في كل إقليم: فالعامية إذن ليست هي الأخرى لغة نهائية في كل مكان وزمان".
وأوضح حول تجربته في مسرحية "الصفقة":" كان لا بد لي من "تجربة ثالثة" لإيجاد لغة صحيحة لا تجافي قواعد الفصحى وهي في نفس الوقت: ما يمكن أن ينطقه الأشخاص ولا ينافي طبائعهم ولا جو حياتهم!.. لغة سلمية يفهمها كل جيل.. ويمكن أن تجري على الألسنة في محيطها؛ تلك هي اللغة المسرحية".
لم يخل البيان الجاد من طابع توفيق الحكيم الفكاهي، فهو يتابع كشف خفايا نصه الساحر" يمكن للقارئ أن يقرأها قراءتين: قراءة بحسب نطق الريفي، فيقلب "القاف" إلى "جيم" أو إلى "همزة" تبعا للهجة إقليمه فيجد الكلام طبيعيا.. ثم قراءة أخرى بحسب النطق العربي الصحيح؛ فيجد العبارات مستقيمة مع الأوضاع اللغوية السلمية!".
ورغم تأثره بالثقافة الفرنسية حيث عاش في فرنسا 3 سنوات درس فيها فنون المسرح والآداب الفرنسية، يكشف الحكيم هدفه من وراء الاستعانة بالعامية وفق قواعد اللغة الفصحى في رغبته في أن يكون للمسرح المصري لغة مسرحية موحدة تماما كما في الآداب الأوروبية، وأيضا الهدف السامي ألا وهو التقريب بين طبقات الشعب الواحد، وشعوب اللغة العربية، بتوحيد أداة التفاهم على قدر الإمكان، دون المساس بضرورات الفن.
أشار صاحب "يوميات نائب في الأرياف" إلى أن مشكلة المسرح في مصر هي الافتقار إلى المسارح؛ لذلك قدم الحكيم هذه المسرحية لتكون صالحة للتمثيل والإخراج في أي مكان بل يمكن عرضها في ساحة صغيرة في أي قرية أو مدينة. ربما كان في ذلك متأثرا بالثقافة الهيللينية، حيث كانت المسرحيات اليونانية والرومانية تقدم في ساحات المدن والقرى وهو الذي يتحدر من أصول "سكندرية"، حيث ولد بحي محرم بك بمدينة الإسكندرية عام 1898.
لعل الميزة الرائعة لهذه المسرحية أنها صالحة لجمهور متنوع ثقافيا فهي تجمع بين جدية تركيبتها وقواعد النص المسرحي وبين الفن الشعبي" الفلكلور" فهي لا تهدف إلى إضحاك أو إبكاء الجمهور بل هي مسرحية من الواقع مليئة بالمتعة والدراما وتتطور أحداثها في سياق مثير، نحن في حاجة بالفعل للعودة لقراءة هذا النص الأدبي المليء بالجماليات الأدبية والفنية.