"النهضة" وتشكيل الحكومة التونسية.. مهمة شبه مستحيلة
التراجع الواضح في نصيب "النهضة" الإخوانية البرلماني يتوازى مع تحديات جمة تجعل من تشكيل حكومة ائتلافية أمرا بالغ الصعوبة
"خريطة مبعثرة" هكذا يمكن وصف المشهد السياسي في تونس عقب إعلان نتائج الانتخابات التشريعية التي لم تسفر عن أغلبية تمكن حزباً أو كتلة رئيسية من تشكيل حكومة.
وصعبت نتائج هذه الانتخابات من مهمة حركة النهضة، التي تصدرت قائمة الأحزاب بالبرلمان لتشكيل حكومة بين الأحزاب التي حلت في المقدمة سياسياً وأيديولوجياً، مما حدا بالبعض أن يصف النتائج النهائية بأنها "ورطة" لحزب النهضة الإخواني.
وانتهت النتائج النهائية للانتخابات التشريعية التونسية إلى تصدر حركة النهضة بحصولها على 52 مقعداً من إجمالي 217 مقعداً.
وحل حزب "قلب تونس" بزعامة نبيل القروي في المرتبة الثانية بـ38 مقعداً. يليه التيار الديمقراطي بـ22 مقعداً ورابعاً ائتلاف الكرامة المحافظ 21 مقعداً ثم الحزب الدستوري الحر 17 مقعداً وحركة الشعب الناصرية 15 مقعداً وتحيا تونس 14 مقعداً ومشروع تونس ٤ مقاعد، فيما لم تتجاوز باقي الأحزاب والقائمات المستقلة ثلاثة مقاعد.
تأكل شعبية النهضة.. لماذا؟
على الرغم من تصدر حركة النهضة نتيجة الانتخابات التشريعية بحصولها على 52 مقعداً، فإن هناك مؤشرات كاشفة تراجع شعبيتها، مقارنة بانتخابات 2011 و2014 التشريعية، إذ حصلت في الأولى على 37٪ من الأصوات، وفي الثانية تراجعت إلى 28٪ ليستمر منحنى انحدار الشعبية في 2018 ويصل إلى 24٪ فقط من الأصوات.
ويمكن إرجاع تأكل شعبية حركة النهضة ذات المرجعية "الإخوانية" إلى عوامل عدة:
-فشل حركة النهضة في تقديم حلول اجتماعية واقتصادية، حيث لم تنجح الحركة التي شاركت في حكومتين ائتلافيتين سابقتين في مواجهة المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها المجتمع التونسي. وبلغت معدلات البطالة 15٪، فضلاً عن ارتفاع معدلات الفقر وتأرجح نسب النمو المحققة بين 0,8٪ و2,5٪. وهي الوضعية الاقتصادية الاجتماعية التي صنعت حالة من الرفض للحركة وكل الأحزاب التي شاركت في الحكومات السابقة.
بالتوازي، يمكن الجزم بأن هزيمة حركة "الإخوان" في مصر عام 2013 ثم تراجع الحركة بشكل واضح في أغلب البلدان العربية أثر بالسلب على شعبية "الإخوان" في تونس.
وبعيداً عن الظرف الموضوعي المتعلق بالرفض الجماهيري للأداء التنفيذي للحركة وتراجعات الحركة الإخوانية، فهناك عوامل تتعلق بالدعاية ولحظة الانتخابات ومن أبرزها تصريحات زعيم حزب النهضة راشد الغنوشي قبل أيام من الانتخابات بتهديد الناخبين حال تصويتهم للمستقلين، حيث قال إن التصويت للمستقلين يعني تصويتاً للفوضى.
وفي الوقت نفسه، أثر فتح ملف التنظيم السري واستعادة الاتهامات الخاصة بتورط عناصر من "النهضة" في اغتيال كلا من شكري بلعيد ومحمد البراهمي، والكشف عن الدور البارز لتنظيم إخوان مصر في بناء وإدارة الجهاز السري لحركة النهضة، المتهم بالتورط في الاغتيالات السياسية التي شهدتها تونس في 2013.
وتبقي الخلافات الداخلية داخل الحركة، ومنها الخلافات بين راشد الغنوشي ومستشاره الخاص لطفي زيتون ووزير الصحة الأسبق عبداللطيف المكي ونائبه محمد بن سالم.
إن تراجع شعبية النهضة حقيقة بالأرقام واتجاهات التصويت، ولكن يبقى أن الحركة حافظت على تماسكها نسبياً عبر الحصول على أكثر من 50 مقعداً والتفرد بصدارة الأحزاب السياسية في النتائج. وهو ما يرجع إلى عدد من العوامل أبرزها القدرات التنظيمية "الإخوانية" التي تعتمد في بنيتها على الولاء والطاعة دون التفكير بالإضافة إلى التدفق النقدي الإخواني لحزب النهضة كتجربة وحيدة باقية للاستمرار في الساحة السياسية العربية.
تشكيل حكومة ائتلافية.. "ورطة النهضة"
إن نتائج الانتخابات التشريعية في تونس تحول بالمنطق الحسابي من هيمنة حزب على الائتلاف الحكومي الجديد في تونس، بل تصعب بوضوح من عملية تشكيل الائتلاف الذي يتطلب تكوينه جمع 109 مقاعد على الأقل.
وأصبح السؤال في الأوساط السياسية التونسية اليوم هو هل تنجح النهضة مع "قلب تونس" في تشكيل حكومة ائتلافية معاً أو بقيادة "النهضة"؟ وكيف؟
يبدو واضحاً أن تشكيل حكومة ائتلافية بين "النهضة" و"قلب تونس" على غرار حكومات سابقة تشكلت بين "نداء تونس" والنهضة" أو مع "تحيا تونس" هو سيناريو مستحيل في اللحظة الراهنة، حيث أعلن الحزبان بوضوح أنهما لن يدخلا في تحالف لتشكيل الحكومة، وتبدو المسافة بينهما سياسياً وأيديولوجياً عصية على أن تقربها ضرورات السياسة أو المصالح الآنية لتشكيل الحكومة.
هكذا، فسيناريو حكومة تضم القطبين الرئيسيين اليوم في السياسة التونسية هو سيناريو مستبعد، ليصبح المتاح للمناقشة أو الطرح هو كيفية محاولة النهضة كسب أكبر عدد من الأحزاب والمستقلين للوصول إلى رقم 109 السحري داخل البرلمان عبر التحالف مع 4 أحزاب على الأقل.. فهل هذا ممكن؟
عديد من السياسيين التونسيين يتوقعون فشل "النهضة" في كسب رهان كسب هذا العدد داخل البرلمان، ما يطرح إمكانية الوصول إلى سيناريو حل البرلمان بحسب المادة 89 من الدستور التونسي تطرح هذا السيناريو في حال عدم منح نواب البرلمان ثقتهم للحكومة خلال 3 أشهر من إعلان نتائج الانتخابات التشريعية.
هل تنجح "النهضة" في تشكيل الحكومة؟
إن النتائج أظهرت تراجع شعبية "النهضة" الإخوانية، حيث حصلت على 23.9٪ فقط من مقاعد البرلمان بإجمالي 52 مقعداً مقابل 89 مقعداً في انتخابات 2011 و69 مقعداً في 2014.
ويتوازى هذا التراجع الواضح في نصيب "النهضة" البرلماني مع تحديات جمة تجعل من تشكيل حكومة ائتلافية أمراً بالغ الصعوبة بالنسبة للحركة الإخوانية، حيث أظهرت الانتخابات التشريعية استمرار نهج التصويت "الرئاسي" العقابي للمشاركين في الحكومات أو المؤسسات السياسية عقب ثورة 201، حيث انحاز الناخب التونسي لأحزاب خارج المؤسسة السياسية إلى جانب الانحياز للمستقلين.
هذه الوضعية التي رسمت برلماناً فسيفسائي، يجعل من نجاح حركة النهضة في تشكيل حكومة ائتلافية أمراً بالغ الصعوبة ويجعل استمرار هذه الحكومة حال تشكيلها أصعب.
ففي حال نجاح النهضة في ضم 4 أو 5 أحزاب للحكومة بدعم من الاتحاد العام للشغل، فإن هذه الحكومة ستكون تحت ضغط الخوف من استمرار فشل حكومات ائتلافية المتعاقبة في معالجة الكثير من المشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
وفي الوقت نفسه، فإن نجاح حكومة تضم النهضة مع أحزاب تتعارض مع خطابها السياسي والاقتصادي والاجتماعي سيقود إلى حكومة ضعيفة بدون برنامج واضح لعلاج الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها تونس في الوقت الراهن.
إن هذه الوضعية نتجت عن رفض حزبا "قلب تونس" الذي حل ثانياً بـ38 مقعداً و"الدستوري الحر" الذي حل رابعاً بـ17 مقعداً التحالف مع "النهضة"، بالتالي فإن على النهضة البحث خارج الـ55 مقعداً للحزبين. ليبقى للحركة البحث عن الـ57 مقعداً لتشكيل الحكومة من الـ110 مقاعد.
يبدو أن هناك 21 مقعداً لحزب "ائتلاف الكرامة" متوفرة للنهضة، حيث أعلن المتحدث باسم الحزب أن "النهضة" بالفعل دعت حزبه للدخول في مفاوضات لتشكيل ائتلاف حكومي. وكشفت تقارير من داخل الحزب قبول التحالف مع الحركة الإخوانية.
هكذا يبقى للنهضة حسابياً البحث عن 36 مقعداً وهي المعضلة الرئيسية للحزب، حيث رفضت حركة الشعب الناصرية (15 مقعداً) فكرة التحالف مع حركة النهضة على لسان أمينها العام زهير المغزاوي، محملاً النهضة مسؤولية فشل الحكومات السابقة، بينما يطرح حزب "التيار الديمقراطي" (22 مقعداً) شروطاً صعبة للغاية للتحالف مع "النهضة"، كما أعلن حزب يوسف الشاهد "تحيا تونس" (14) رسمياً عدم مشاركته في الحكومة الجديدة وانضمامه لصفوف المعارضة.
هكذا فإن هناك 89 مقعداً بالبرلمان خارج لعبة البحث عن حليف بالنسبة للنهضة، وبالتالي فإن الخناق سيضيق على "النهضة لتجميع المقاعد الصغيرة" ويبدو أن ضم حركة الشعب (16 مقعداً) أسهل ولكنه ليس طريقاً معبداً بل يمتلئ باشتراطات وتوافقات صعبة مع الحركة الناصرية.
بالتالي لن يبقى أمام النهضة إلا جمع المستقلين وهي المهمة التي اعتبرها مراقبون انتحاراً سياسياً للحركة الإخوانية، حيث ستضطر الحركة للتفاوض مع أشخاص وليست كتل سياسية واضحة المعالم.
في النهاية يمكن القول إنه نظرياً لدى حركة "النهضة" والأحزاب التي توافق مبدئياً أو لا ترفض التحالف معها 90 مقعداً برلمانياً فقط من إجمالي 109 مقاعد تحتاجها لتشكيل الحكومة. وهكذا فإن الحركة الإخوانية تحتاج إلى "معجزة" سياسية لتشكيل الائتلاف في وقت لا تعرف فيها السياسة التونسية معجزات التوافق بل يميل الرأي العام والسياسيون لرفض الحلول الوسطية.