في هذا العالم المتقلب يمينا ويسارا وتتقاذفه التوترات من كل حدب وصوب، باتت ساحات التواصل الاجتماعي ميدانا جديدا لحروب من نوع آخر.
حروب لا تُخاض بالطائرات ولا تُطلق فيها المدافع، ولا تستخدم فيها الذخائر، ولا تُراق فيها الدماء، بل حروب وقودها الكلمات التي تشعلها ألسنة الكذب والخداع، حروب تُزرع فيها الشكوك لتُحصد بها الفتن، ليقع ضحاياها في غيابات الأوهام ومتاهات التضليل.
إنها حرب الذباب الإلكتروني، ذاك الكيان الخفي الذي ينمو بالحسابات الوهمية ليجوب فضاءات الإنترنت كالطفيليات، يقتات على الشائعات، ويتغذى على المؤامرات، ويعتاش على المخططات، وينثر بذور الفتنة بين الشعوب العربية والخليجية، تلك الشعوب التي لطالما كانت وحدتها وتماسكها سداً منيعاً أمام كل من سوّلت له نفسه العبث بمقدراتها أو اللعب على وتر القسمة والفرقة.
هذه الحسابات، التي تنجر وراء أجندات خفية، تعمل بدقة على إحداث الفوضى بين شعوب المنطقة، فكم من خلاف بسيط جرى تضخيمه عبر النفخ في البوق، ليحول الشرارة إلى نيران تلتهم العلاقات الأخوية، وكم من أكاذيب ومعلومات مغلوطة نُشرت بهدف تشويه الحقائق وإفساد الروابط التي نسجتها سنوات من التعاون والتآخي بين الدول.
لكن في خضم هذه الحملة المسمومة، تقف الإمارات والسعودية، كركيزتين لهذه الوحدة، هدفاً رئيسياً لمحاولات التأليب والإثارة، التي مهما بلغت من الحرفية والدقة، لم ولن تجد لها طريقاً إلى قلوب الخليجيين والعرب، ففي كل مرة يحاول الذباب الإلكتروني بث سمومه، يصطدم بوعي جمعي متجذر، وبإرادة قوية تستند إلى روابط الدم والمصير المشترك.
وبالحس الوطني، جاء رد الصاع صاعين، لكن بأسلوب حضاري راقٍ بعيد عن الإسفاف والتطاول، ما يعكس النضج والإدراك العميق لخطورة المرحلة، فقد توالت المبادرات المناهضة للحملات المسيئة، فبرزت مبادرة أطلقها تركي آل الشيخ، المستشار في الديوان الملكي ورئيس مجلس إدارة الهيئة العامة للترفيه في السعودية، ثم أخرى قادها الشيخ عبدالله بن محمد بن بطي آل حامد، رئيس المكتب الوطني للإعلام في دولة الإمارات، وذلك عبر سلسلة تدوينات على موقع التواصل الاجتماعي «إكس» (تويتر سابقا)، دعا فيها للتصدي لآفة الحسابات المثيرة للفتن والشائعات أو ما يُسمى «الذباب الإلكتروني»، الذين يحاولون إثارة الفتنة والتفرقة بين الإخوة والأحبة في دول الخليج والدول العربية.
وما يثلج الصدور فعلياً، هذا النجاح الكبير والصدى الواسع الذي قوبلت به تلك المبادرات وما لقته من تفاعل عدد كبير جداً من الشخصيات العامة والمسؤولين والكتاب وصانعي المحتوى، في مقدمتهم وزير الإعلام الكويتي عبدالرحمن المطيري الذي دعم هذه المبادرات ودعا إلى التصدي للحسابات المسيئة ومحاربتها ونبذ كل ما من شأنه المساس بالنسيج الاجتماعي الخليجي.
هذا الزخم والتفاعل مع المبادرات وأهدافها أشاد بهما الدكتور أنور بن محمد قرقاش المستشار الدبلوماسي لرئيس دولة الإمارات، واعتبرهما يعكسان الحرص المشترك للتوعية بأهمية المشاركة لمكافحة هذه الظاهرة الخبيثة. وعلى الخط نفسه، دخل حمد بن ثامر آل ثاني رئيس المؤسسة القطرية للإعلام الذي دعا هو الآخر إلى تضافر الجهود والعمل الدؤوب على جميع المستويات الرسمية والأهلية، للتصدي لمثل هذه الحسابات المجهولة والمسيئة، والعمل على كل ما من شأنه تعزيز مسيرة مجلسنا الخليجي.
لذلك لا بد للجميع أن يدرك أن هذه المبادرات ليست مجرد دعوة للتجاهل، بل هي استراتيجية مدروسة تعبر عن فهم عميق لطبيعة الصراع الرقمي، فالمبادرات التي وُلدت من رحم الوعي الوطني، تدعو كل فرد إلى عدم الوقوع في فخ الاستفزاز، وعدم منح الذباب الإلكتروني الأهمية التي يسعى إليها.
ولأن الماضي يعلمنا مواجهة تحديات المستقبل، فلا بد للدول العربية وفي مقدمتها دول الخليج اتخاذ ما يلزم على المستوى الرسمي لمواجهة مثل تلك الحملات لاحقاً والقضاء على الذباب الإلكتروني «في مهده» من خلال وضع آلية مشتركة لمواجهته، وتنظيم حملات توعوية مشتركة لتعزيز الوعي المجتمعي حول هذه المخاطر وكيفية التعرف على الحسابات الوهمية، إضافة إلى ضرورة تعزيز التعاون الدولي والإقليمي من خلال تبادل المعلومات والخبرات حول التطورات الجديدة في هذا المجال، علاوة على تطوير التكنولوجيا المضادة التي تساعد في التعرف على الذباب الإلكتروني، وفي الختام تبقى الرقابة وسن التشريعات المتعلقة باستخدام شبكة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي والقيم والمبادئ خير منقذ من «وحل الأكاذيب».
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة