"أصرح أمامكم جميعًا أن حياتي كلها سواء كانت طويلة أو قصيرة ستكرس لخدمتكم"، هكذا خاطبت إليزابيث، ابنة الـ21 عاما، شعبها قبل عقود.
ومرت السنوات، والعقود، وطوت الملكة البريطانية، عامها الـ70 في الحكم، لتصبح أكثر من جلس على العرش في تاريخ بلادها، وكان الثابت شيئا واحدا: لم تتقاعس عن خدمة شعبها رغم الصعوبات والتحديات.
الملكة إليزابيث الثانية التي رحلت عن عمر يناهز 96 عاما، اليوم، دقت أبواب قلوب البريطانيين منذ لحظتها الأولى في الحكم في فبراير/شباط 1952، لتصبح الملكة الأكثر شعبية في تاريخ البلاد، وتصفها مجلة فورين بولسي الأمريكية بأنها "شمس ساطعة لإمبراطورية غابت عنها الشمس".
لكن شمس إليزابيث غربت بعد أزمة صحية وسلسلة إعلانات مفاجئة للمؤسسات السياسية البريطانية عن مخاوف بشأن صحة الملكة، لتسجل غيابا إجباريا عن بلادها في وقت اقتصادي صعب للغاية.
إليزابيث المولودة في لندن في عشرينيات القرن الماضي، وتلقت تعليما خاصة في التاريخ الدستوري واللغة الفرنسية، في المنزل، وجدت نفسها وريثة لعرش البلاد فجأة في عام 1936، عندما ارتقى والدها، جورج السادس، للحكم، بعد تنازل شقيقه إدوارد الثامن عن العرش.
وبعد 3 سنوات فقط، اصطدمت ولية العهد، بعديد من الواجبات العامة وظرف صعب مع انطلاق الحرب العالمية الثانية في 1939، فانضمت إلى الخدمة العامة، قبل أن تطلق تصريحها الشهير مع القصف النازي على لندن "كيف أطالب الناس بالصمود إذا غادرت القصر".
بقيت إليزابيث في موقعها، وصمدت بريطانيا ثم حولت دفة الحرب وانتصرت على دول المحور، ودشنت البلاد مرحلة إعادة البناء، بالتزامن مع دخول ولية العهد القفص الذهبي في 1947، حين تزوجت من الأمير فيليب.
وفي نفس العام زارت إليزابيث جنوب أفريقيا بصحبة والديها، وهناك احتفلت بعيد ميلادها الـ21، وقالت عبارتها الشهيرة في بث إذاعي "أصرح أمامكم جميعًا أن حياتي كلها سواء كانت طويلة أو قصيرة ستكرس لخدمتكم".
تلك العبارة التي تحولت إلى دستور عمل الملكة، وصاحبتها طوال مسيرتها ومع اعتلائها العرش واستمرارها لعقود طويلة في مواجهة أزمات داخلية وخارجية، وتزين واجهة موقع العائلة المالكة الإلكتروني.
وكانت ظروف تولي إليزابيث العرش شبيهة لحد كبير بظروف وفاتها، إذ أنها عايشت فترة مرور والدها بصعوبات صحية بداية من عام 1951، وخاضت سفرات خارجية مهمة حاملة إعلان توليها المملكة تحسبا للطارئ الذي كانت تتخوف منه.
وبالفعل، هبط عليها الخبر الصعب يوم 6 فبراير/شباط 1952، عندما كانت في رحلة خارجية إلى كينيا، وعلمت بوفاة والدها ثم جرى إعلانها ملكة، لكنها رفضت تغيير اسمها إلى لقب جديد كما اعتاد الملوك.
وبعد أكثر من 70 عاما، دخلت إليزابيث في حالة صحية صعبة، وسارع ولي عهدها، الأمير تشارلز، إلى مقر إقامتها الريفي في بالمورال بإسكتلندا، لكن الخوف من الصاعقة لم يدم طويلا، وأعلنت وفاة الملكة.
مسيرة طويلة
وبالعودة إلى لحظة تولي إليزابيث العرش، فإن الملكة أشرفت على تاريخ مهم لعائلتها، إذ كان حفل تتويجها أول حفل تتويج ملكي يبث على شاشة التلفزيون، ما سمح للناس من جميع أنحاء العالم بمشاهدة الحدث.
وبصفة عامة، تميز عهد إليزابيث الطويل والسلمي بشكل أساسي، بتغييرات واسعة في حياة شعبها، وفي قوة بلدها، وكيف يُنظر إلى بريطانيا في الخارج، وكيف يُنظر إلى الملكية.
وبصفتها ملكًا دستوريًا، لا تدرس إليزابيث الأمور السياسية، ولا تكشف عن آرائها السياسية، ومع ذلك، كانت الملكة الراحلة حريصة على التشاور بانتظام مع رؤساء وزرائها.
وعندما أصبحت إليزابيث ملكة، كانت بريطانيا لا تزال تمتلك إمبراطورية وهيمنة على مستعمرات عدة، لكن خلال الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، حصلت العديد من هذه المستعمرات على الاستقلال وتطورت الإمبراطورية البريطانية إلى "الكومنولث".
وبناء على هذا التحول، قامت إليزابيث الثانية بزيارات إلى دول أخرى كرئيسة للكومنولث وممثلة لبريطانيا، بما في ذلك رحلة إلى ألمانيا في عام 1965. إذ أصبحت أول ملكة بريطانية تقوم بزيارة دولة إلى ألمانيا منذ أكثر من خمسة عقود.
وخلال السبعينيات والثمانينيات، واصلت إليزابيث الثانية الرحلات الخارجية على نطاق واسع، ففي عام 1973 حضرت مؤتمر الكومنولث في أوتاوا بكندا.
وفي عام 1976، سافرت إلى الولايات المتحدة للاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لاستقلال أمريكا عن بريطانيا. وبعدها إلى مونتريال بكندا، لافتتاح دورة الألعاب الأولمبية الصيفية بنفس العام.
كما سافرت في عام 1979 إلى الكويت والبحرين والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، ما بنى عاصفة من الاحترام والتقدير الكبير للملكة حول العالم.
وفي عام 2011، أظهرت الملكة إليزابيث أن التاج لا يزال يتمتع بقوة رمزية ودبلوماسية عندما أصبحت أول ملك بريطاني يزور جمهورية أيرلندا منذ عام 1911؛ عندما كانت أيرلندا بأكملها لا تزال جزءًا من المملكة المتحدة.
تحديث النظام
وبصفتها ملكة، قامت إليزابيث الثانية بتحديث النظام الملكي، وإسقاط بعض شكلياته وجعل بعض المواقع والكنوز الملكية في متناول الجمهور العادي.
وبينما كانت بريطانيا ودول أخرى تكافح ماليًا، ألغت البلاد في ظل حكم إليزابيث القائمة المدنية في عام 2012، والتي كانت عبارة عن نظام تمويل عام للنظام الملكي يعود تاريخه إلى ما يقرب من 250 عامًا.
وبعد هذا القرار، تستمر العائلة المالكة في تلقي بعض الدعم الحكومي، لكن لا يقارن بما كانت تحصل عليه في ظل القائمة المدنية.
وعلى الرغم من الدعوات العرضية للتنحي لصالح نجلها تشارلز مع تقدمها في العمر، ظلت إليزابيث ثابتة في التزاماتها الملكية، وواصلت القيام بأكثر من 400 ارتباط سنويًا، وحافظت على دعمها لمئات المنظمات والبرامج الخيرية.
وفيما يتعلق بعلاقتها برؤساء وزرائها، عينت إليزابيث الثانية 15 رئيسًا للوزراء خلال فترة جلوسها على العرش، وعقدت الملكة ورئيس الوزراء اجتماعًا سريًا أسبوعيًا خلال عقود حكمها.
وفي نفس الفترة، التقت الملكة إليزابيث أيضًا بحوالي ربع رؤساء الولايات المتحدة منذ تأسيسها، واستقبلت الرئيس السابق دونالد ترامب في زيارة دولة في يونيو/حزيران 2019.
ووفق تقارير بريطانية، تمتعت إليزابيث بعلاقة قوية أقرب إلى علاقة أبوية مع رئيس الوزراء الأيقونة وينستون تشرشل، وتمكنت لاحقًا من التخفيف من درجة علاقتها برؤساء وزرائها. في المقابل، كانت تملك علاقة رسمية جافة جدا مع رئيسة الوزراء الراحلة مارجريت تاتشر التي كانت تميل للعب شخصية المحاضر للملكة في مجموعة من القضايا.
في وقت لاحق، تمتع زعيم حزب المحافظين الأسبق، ديفيد كاميرون، بعلاقة جيدة وقريبة مع الملكة، لكنه اعتذر في عام 2014 عن كشفه فحوى محادثة مع إليزابيث عن معارضتها للاستفتاء على استقلال إسكتلندا.
وخلال 70 عاما على العرش، عملت إليزابيث الثانية بلا كلل لحماية صورة النظام الملكي والاستعداد لمستقبله، لكنها رأت النظام الملكي يتعرض للهجوم والانتقاد خلال حياتها، واجتازت المؤسسة عددًا من العواصف، بعضها العائلية مثل وفاة زوجة ابنها، ديانا في حادث سيارة، وانفصال حفيدها الأمير هاري عن العائلة، فضلا عن تهديدات بالقتل ضد العائلة المالكة.