تتوافق السياسات بين دولة الإمارات العربية والصين في قضايا سياسية واستراتيجية عدة خاصة في مجال مكافحة الإرهاب.
لا تعد الصين قطبا استراتيجيا وسياسيا فقط، بل هي إحدى القوى التي تدير المنظومة الدولية في مجال الاقتصاد والتجارة، كما تسعى للعب دور سياسي واستراتيجي بمعنى الكلمة في الفترة الراهنة، وهو ما برز واتضح من مجمل التحركات التي تقوم بها الصين في النطاقين الآسيوي والعربي.
ولعل الزيارة التي قام بها الرئيس الصيني شي جين بينغ إلى دولة الإمارات العربية الشقيقة ولقاءه بالشيخ محمد بن راشد آل مكتوم نائب رئيس دولة الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، والشيخ محمد بن زايد آل نهيان ولي عهد أبو ظبي نائب القائد الأعلي للقوات المسلحة، يؤكد رغبة الصين في الانفتاح على دولة كبيرة في نطاقها العربي، وما تقوم به من أدوار واعدة سياسيا واقتصاديا وتنمويا على المستويين الإقليمي والدولي .
ستعطي تنمية وتطوير العلاقات الإماراتية الصينية دفعة كبيرة للعلاقات العربية الصينية، خاصة أن الدبلوماسية الإماراتية نجحت، وبمهارة حقيقية في تحقيق حضور مبهر ومتميز في مناطق وأقاليم عدة، وهو ما ستسعى الصين لاستثماره بالتنسيق والتفاعل مع حركة الدبلوماسية الإماراتية المتميزة.
أولا: تتميز العلاقات الإماراتية بالكثير من الثوابت والمعطيات الراسخة، والتي جعلت العلاقات بين البلدين نموذجا يمكن أن يحتذى في مناطق أخرى من العالم؛ فدولة الإمارات العربية المتحدة من بين الدول المصدرة للخام إلى الصين، وقامت ببيعها نفطا بحوالي 4 بلايين دولار مؤخرا.
كما وقعت دولة الإمارات والصين عقدين في مجال استكشاف النفط والغاز في أبوظبي، واتفاقا لإقامة سوق تجاري ضخم في منطقة التجارة الحرة في دبي، وهذه الاتفاقيات وغيرها تشير إلى حرص الصين على بناء علاقات كبيرة، وممتدة مع دولة الإمارات العربية بما تمثل من قلعة الاستقرار في الإقليم بأكمله، ونموذج اقتصادي فاعل استطاع بكفاءة كبيرة تحقيق أهدافه الاستراتيجية، وهو ما جعل دولة كبيرة مثل الصين تسعى لبناء استراتيجية مشتركة على أسس راسخة وثابتة، حيث من الواضح سعي الصين لتنمية العلاقات بهذه الصورة غير المسبوقة خاصة مع التحركات الصينية النشطة في الأقاليم المختلفة.
فالزيارة إلى دولة النموذج، الإمارات العربية المتحدة، جاءت ضمن جولة يقوم بها الرئيس الصيني للسنغال ورواندا وجنوب أفريقيا أيضا مما يعني أن الصين تتحرك في نطاقات عربية إقليمية، وأفريقية كبيرة في نفس التوقيت.
ثانيا : تتوافق السياسات بين دولة الإمارات العربية والصين في قضايا سياسية واستراتيجية عدة، خاصة في مجال مكافحة الإرهاب والإعلان الإماراتي المباشر بالتزام دولة الإمارات العربية المتحدة بوحدة الأراضي الصينية في إشارة مهمة لتايوان، والتزام الصين في المقابل بدعم دولة الإمارات العربية في استعادة سيادتها على الجزر الإماراتية من إيران، والرسالة الواضحة في هذا الإطار الحرص الصيني على التعامل مع دولة الإمارات العربية المتحدة من منطق التقييم الصيني الكبير للدور الإماراتي الصاعد في النطاق الإقليمي، والذي يشير إلى حضور سياسي واستراتيجي في أغلب قضايا الإقليم، وفي ظل الحرص على تطوير هذا الدور بما يكسب للسياسة الإماراتية مكانة وموقعا متقدما في السياسات العربية والإقليمية، وهو ما يمكن أن يخدم الصين أيضا في إطار رؤية أكثر انفتاحا في العالم العربي وأفريقيا، خاصة مع التواجد الإماراتي المتميز في مناطق مختلفة في أفريقيا مما قد ينسق في مداه الطويل مع الجانب الصيني الساعي للتواجد عبر استراتيجية المنفعة المتبادلة، والعمل على تحقيق المصالح الاقتصادية والاستراتيجية بصورة مباشرة، ولعل الإعلان الإماراتي الصيني في تعميق وتطوير تعاونهما ضمن مبادرة الحزام والحرير، والطريق لإقامة علاقات شراكات تجارية، واستثمارية مستدامة يؤكد على هذا النهج الجديد في العلاقات .
ثالثا : تتعدد مجالات التعاون المشترك بين دولة الإمارات العربية المتحدة والصين بصورة لافتة، خاصة أنها لا تقتصر على العلاقات التجارية أو الاستثمارية فقط، بل تمتد إلى مجالات التعاون العسكري، حيث تم التوافق الإماراتي الصيني على خطة عمل مشتركة لتعزيز التعاون بين القوات المسلحة بين البلدين، وإجراء تدريبات مشتركة والتعاون في مجال العلوم والتكنولوجية، وتعزيز أنظمة التعاون الإقليمي والدولي في مجال عدم الانتشار النووي ومكافحة تهريب المواد النووية، وهو ما يمكن أن يعتبر مدخلا حقيقيا وفاعلا لإمكانية الشروع في توقيع اتفاقية معاهدة للدفاع المشترك على المدى المنظور وبناء منطقة التجارة الحرة، وزيادة الاستثمارات المتبادلة في مجالات الجمارك والضرائب والنقل الجوي، والرسالة هنا أن العلاقات الإماراتية الصينية تنفتح على كافة المجالات في ظل توافر الإرادة السياسية والاقتصادية للتوصل لمنظومة كاملة من العلاقات التي ستعد نموذجا للعلاقات في الإقليم العربي / الآسيوي، وبما يمكن أن يرتب سياسات أخرى في مجالات جديدة.
رابعا: يبعث التعاون الإماراتي الصيني في دلالاته ورسائله السياسية والاستراتيجية الكثير من المعطيات الجديدة، والتي ترتبط بما تتحرك فيه الدبلوماسية الإمارتية، والتي تتبع أنماطا من الدبلوماسية الذكية، إضافة للدبلوماسية الناعمة على المستويات العربية والأفريقية والآسيوية، وهو ما سيكون منطلقا واستمرارا لحضور كبير في مواقع جديدة ودوائر استراتيجية حقيقية، خاصة أن التنسيق مع دولة كبيرة مثل الصين وروسيا والولايات المتحدة يشير إلى طبيعة ما تنجزه الدبلوماسية الإماراتية وفقا لحسابات القوة الشاملة بمعناها الأوسع، والتي استطاعت بناء مراكز تأثير وحضور كبير، وفي المقابل لا تتحرك الصين من منظور اقتصادي فقط خاصة مع السعي للتنسيق مع الدول المركزية في أقاليم مختلفة، وبناء شراكات على قدم المساواة مع العمل على تنمية علاقاتها على أسس جديدة ووفق استراتيجية تفاعلية تعلي من قيمة التعاون المصلحي من جانب، والتأكيد على أن الصين دولة كبرى ولديها من الإمكانيات والقدرات ما يمكن أن تنافس فيه الولايات المتحدة وروسيا، بل ودول الاتحاد الأوروبي، ولعل ما يدور في إطار ما يعرف باسم الحرب التجارية بين الصين وحلفائها والولايات المتحدة ما يشير إلى هذا الأمر في ظل مواجهات مستمرة بحثا عن المصالح لكل طرف، وهو ما اتضح في آخر اجتماع في مجموعة الـ7، والتي خرجت منها روسيا بعد أزمة أوكرانيا، ودفعت الرئيس الأمريكي ترامب للمطالبة بعودة روسيا لتؤدي دورا في إطار لعبة التوازنات السياسية والاستراتيجية والاقتصادية التي يسعى إليها الجانب الأمريكي في الفترة الراهنة.
خامسا: الواضح إذن أن الصين تسعى للتعامل بواقع اقتصادي جديد ومن خلال استراتيجية متكاملة، ومع دول كبيرة مثل دولة الإمارات التي يمكن أن تضيف لتحركاتها ثقلا سياسيا واستراتيجيا، ليس فقط من خلال التحرك في النطاق الخليجي العربي، بل وفي نطاقات أخرى، وفي المنطقة الأفريقية أيضا، ومن خلال الحضور الإماراتي المتميز في جنوب شرق آسيا، وجمهوريات آسيا الوسطى ومع دول الاتحاد الأوروبي وفي الجنوب، وهو ما يؤكد على أن التقييمات الصينية السياسية والاقتصادية تتسق مع المصالح المشتركة التي تسعى إليها الصين من تعاملها مع دولة نموذج في نطاقها مثل دولة الإمارات، وهو ما يمكن أن يتكرر وفقا للتقديرات الصينية مع دول أخرى تسعى الصين للانفتاح عليها، وبناء علاقات أكثر تأثيرا وحضورا ونفوذا ، فالصين لم تعد الدولة التي تنأى بنفسها عن قواعد اللعبة الدولية والتفاعلات الأمريكية الروسية، بل تسعى الآن للتواجد وممارسة دور أكبرر، وهو ما سيتضح في الفترة المقبلة خاصة أن أساليب الدبلوماسية الصينية لا تتوقف عند الدبلوماسية الناعمة؛ بل هي تملك بالفعل كافة أساليب الدبلوماسية الخشنة والذكية معا، مما يؤهلها للعب دور أكثر انفتاحا على الدول والوحدات السياسية في العالم، مع التنسيق مع الدول الفاعلة في إطار من السياسات الجديدة التي يعمل عليها القادة الصينيون، والتي تحجز دورا بارزا للصين في إدارة الملفات الدولية، وليس فقط العمل من منظور اقتصادي واستثماري وفي ظل ما تواجهه من مسعى أمريكي لتحجيم هذا الدور المتنامي ، وعدم تمدد مجالاته إلى مستويات أخرى، وهو ما لن تستطيع الإدارة الأمريكية، والرئيس ترامب شخصيا تحقيقه في ظل الحركة الصينية الفعالة، والتي تنطلق من مقومات عديدة، وتجعل من الصين قطبا استراتيجيا واقتصاديا هائلا بعيدا عن المبالغات السياسية التي تدفع بالصين ومناشدتها عبر دول عديدة للعب دور أكبر وتنافسي وتوازني في المحيط الدولي في ظل هيمنة الإدارة الأمريكية على رسم السياسات الدولية، وفي إطار استراتيجية النظام أحادي القطبية، حيث ترفض الولايات المتحدة وبقوة أي دور آخر لروسيا أو الصين، وهو أمر سيحتاج لمراجعات حقيقية في الفترة المقبلة في ظل الحرب التجارية الراهنة؛ والتي تمثل فيها الصين دورا بارزا مزعجا للولايات المتحدة.
سادسا: إذن تسعى الصين للحضور الدولي من خلال استراتيجية التنسيق والتفاعل مع دول كبيرة بثقل دولة الإمارات، وهو ما اتضح في الانفتاح على أبوظبي، ومن متابعة المصادر الصينية ينبغي التأكيد على أن التقارب مع دولة الإمارات العربية سيكون بؤرة التحرك الصيني إلى مناطق أخرى، وأن تعزيز العلاقات سيكون مثالا لما تخطط له الصين وتعمل على الوصول إليه، حيث يكون من مصلحة الدول العربية أن تقيم علاقات أكثر وضوحا مع دولة كبيرة مثل الصين لكي تتوازن في إطار علاقاتها مع الولايات المتحدة وروسيا، وبما يحقق المصالح العربية ليس فقط في القضايا السياسية وعلى رأسها القضية الفلسطينية والسورية، وإنما أيضا في إطار العلاقات التجارية والاستثمارية التي تسعى الدول العربية لإحداث نوع من التوازن الاستراتيجي مع الأقطاب الكبرى في العالم ...
وستعطي تنمية وتطوير العلاقات الإماراتية الصينية دفعة كبيرة للعلاقات العربية الصينية، خاصة أن الدبلوماسية الإماراتية نجحت، وبمهارة حقيقية في تحقيق حضور مبهر ومتميز في مناطق وأقاليم عدة، وهو ما ستسعى الصين لاستثماره بالتنسيق والتفاعل مع حركة الدبلوماسية الإماراتية المتميزة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة