تجربة دبي في عهد محمد بن راشد لا نماري إن قلنا إنها تعيد مسحة ولمحة ما من وادي السليكون في كاليفورنيا
مثير جدا الحديث عن سمو الشيخ محمد بن راشد، ووجه الإثارة هنا هو أنك تشعر بوجودك أمام رجل متعدد المواهب، قائد وسياسي، مفكر وكاتب، أديب وشاعر، ولا يمكنك أن تضع حدوداً فاصلة بين موهبة وأخرى، لذا فإنه لا ينفك يدهش البعيدين عنه، وربما تزول أسباب الدهشة عند الذين قدر لهم الاقتراب منه.
تجربة دبي في عهد محمد بن راشد لا نماري إن قلنا إنها تعيد مسحة ولمحة ما من وادي السليكون في كاليفورنيا، بعد أن أضحت إمارة دبي فصلاً مشعاً بأضواء التنوير في كتاب الإمارات، الدولة التي باتت رسالة في محيطها الإقليمي والدولي على حد سواء.
محمد بن راشد الذي سنجد في كتابه الكثير من حكم السنين لا بد له أن يعرج على قصته مع دبي، تلك التي نريد للأجيال القادمة أن تنصت إليها وتصيخ السمع، فمن جد وجد، والإرادة الخلاقة تجعل قطرات الماء التي تبدو ضعيفة قادرة على تفتيت الصخور العصية على الشقآخر أوجه الدهشة الإيجابية والخلاقة التي يأخذك محمد بن راشد في طريقها، حكاياه الخمسين، وفيها من خلاصة العمر، وتجارب السنين، ما يبكيك مع أن الرجل يحكيك، وربما هذه هي المهارة البالغة عند الشيخ محمد بن راشد المدهش.
هل جاء الكتاب الأخير على هامش خمسين عاماً من خدمة الوطن، محاكاة لما خبرنا إياه الشاعر الفرنسي الكبير "لافونتين" في كتابه العمدة "الحكايا"؟
تكاد العقدة في السرد أن تكون واحدة، فكلاهما لا يبتغي المباشرة في الإشارة، ولا يعتمد التصريح أو التلميح، بل يتركان للقارئ متعة البحث العقلي، والاستدلال القلبي إن جاز التعبير، وهذه هي فائدة القراءة الحقيقية.
خمسون قصة لم يقدر لنا أن نطلع بعد عليها برمتها، غير أن ما رشح منها حتى الساعة، يحمل أوجاعا وأحزانا لعالمنا العربي العصي على التقدم إلا فيما رحم ربك، الموعود بالانسداد التاريخي، إلا إذا قدرت له قيادات قابضة على جمر المعرفة، ومعجونة بخميرة الابتكار، ومجبولة على المغامرات الخلاقة.
قصص الشيخ محمد التي طالعناها تدمي القلوب عن أوطان أضاعها أصحابها، من جراء الذهنية الأحادية التي ملكتهم، والصراعات المذهبية التي فرقتهم، والانغلاق الحضاري الذي لف شمل الكثيرين منهم، وها هو حساب الحصاد يأتي موافقا لحساب الحقل غير الخلاق بالمرة.
بالتسلسل التاريخي نجد أنفسنا في مواجهة ألم يعتصر لبنان، سويسرا الشرق الذي كان، والذي مضى حكما ولن يعود أبدا، وقد كان وللأسف ملعبا لصراعات الأمم وحروب الوكالات، لبنان الذي مزقته الطائفية، وأعجزته الدوجمائيات المتصارعة حتى الساعة، قبل أن تصيبه القارعة الكبرى المتمثلة في النفوذ الإيراني، وما فعله في شق الروح اللبنانية في أجساد وقلوب وعقول اللبنانيين، وما استتبعه المشهد من ضرائب تراكمية بات على الجميع هناك دفع أثمانها الباهظة أمس واليوم وغدا.
ليس البكاء نقمة مرة وإلى الأبد، فهو أحيانا يضحى نعمة إذا تعلم المرء الدرس وخلصت الشعوب إلى فوائد أحاجي الإنسانية، لكن آفة حارتنا النسيان كما يقول نجيب محفوظ.
هل لقارئ كتاب محمد بن راشد أن يتوقف عند كعب أخيل الذي أحال المنطقة العربية إلى قلق في النهار وأرق في الليل؟
الذين لديهم علم من كتاب يدركون أننا نقصد الغزو العراقي للكويت، ذاك الذي غير جيوسياسية الشرق الأوسط القديم، وأحدث شرخا في جدار النسيج الإنساني العربي لم يلتئم حتى الساعة، والعهدة هنا على رجال علم الاجتماع الكويتي الكبار.
كانت صدمة غزو الكويت خطيئة مميتة يشرحها الشيخ محمد في ثنايا كتابه، وما هو أكثر كارثية والذي يفتح أعيننا عليه، هو نوع القيادة التي أوردت شعباً وحضارة عريقة موارد التهلكة، وها هو العراق بعد أكثر من عقد ونصف على الغزو الأمريكي ممزق ومريض وواقع رهن الأعداء التاريخيين حضارياً وعقائدياً.
من لبنان إلى سوريا القريبة، والقصص تمضي بنا لتميط اللثام عما كان وعن الأحلام التي تحطمت، بعضها على صخرة العند والعناد، والآخر على رقعة الشطرنج الإدراكية لعالم ما بعد النظام الذي كان عالميا، فأصبح عبثيا إلى حين إشعار آخر.
قصة الأسد في كتاب محمد بن راشد سردية حزينة إلى أبعد حد ومد، عن رجل بدا إصلاحيا، ثم شاهد بلاده تغرق، وما بين المشهدين، ما ورائيات عديدة تتقاطع فيها الخيوط السياسية وتتشابك بها الخطوط العقدية، فيما مخيمات اللاجئين السوريين تعج بالمهانين والمجروحين، ووطن تتقاسمه القوى الإقليمية، وجرح مفتوح على غير هدى.
لا تكتمل مرثاة الحزن على ما طالعنا إلا بالحديث عن ليبيا، تلك الدولة التي تحوز على ثروة طبيعية عريضة من النفط والغاز والأراضي الساحلية السياحية والثروات الكامنة في بطن الصحراء، والتي آلت إلى ثلاث مناطق متصارع عليها، وقوى دولية تسعى لاستعادة لنفوذها والاستئثار بخيرات الليبيين قبل أن يهمها مداوة مجاريح العقيد.
كارثة ليبيا كما يقصها علينا محمد بن راشد هي كارثة الحاكم الذي يخيل له أنه الإله جوبيتر كبير آلهة الأوليمب الذي لا يأتيه الباطل من أمامه ولا من خلفه، وهو الذي يعتقد في قرارة نفسه بأن دولته سيدة قيصر التي لا تخطئ بالمرة، ليصحو ذات مرة على الحقيقة المرة، فلا دول، ولا شبه دولة، ولا مستقبل، بل كيان جغرافي يهدد من حوله من الأمم العريقة بالإرهابيين، وكيانات سياسية تستخدمها قوى الشر في المنطقة لإحداث المزيد من الخراب حول العالم.
محمد بن راشد الذي سنجد في كتابه الكثير من حكم السنين لا بد له أن يعرج على قصته مع دبي، تلك التي نريد للأجيال القادمة أن تنصت إليها وتصيخ السمع، فمن جد وجد، والإرادة الخلاقة تجعل قطرات الماء التي تبدو ضعيفة قادرة على تفتيت الصخور العصية على الشق.
محمد بن راشد أسعدتنا بقدر ما أبكيتنا.. ماذا في حوزتك بعد من حكايا؟
أخيرا ربما يضحى فرض عين على القائمين على هذا الكتاب إصداره في نسخة شعبية تطالها أيادي العرب من أقصى الأرض إلى أدناها، علها تدري مسارب الأمل وتباعد بينها وبين العبرات الثخينة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة