أهداف الزيارة الأساسية بالنسبة للبابا كانت استمرار العمل مع قادة العالم الإسلامي لجعل الشرق الأوسط والبلدان المسلمة مكانا أكثر أمنا
تشير جميع النتائج السياسية والإعلامية لزيارة البابا فرنسيس إلى دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخراً أننا أمام مرحلة جديدة بين الفاتيكان والدول العربية والإسلامية، وعلى رأسها دولة الإمارات، والتي تؤكد أنها تمضي في مسارات مدروسة وحسابات مخطط لها بفضل قيادتها الرشيدة والجيل الصاعد في مؤسسات إدارة الدولة، وهو جيل مبهر لديه قدرة على التخطيط والتنظيم وبناء دولة عصرية تتماشى مع محيطها العربي والإسلامي والدولي، وهو ما تؤكده حسن الخيارات والاتجاهات التي تتعامل من خلالها دولة الإمارات تجاه الأحداث الدولية من جانب، والتواصل مع المؤسسات والمنظمات الإقليمية والدولية من جانب آخر.
كان طبيعياً أن تحتفي الفاتيكان بزيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات لاعتبارات تتعلق بدورها إقليميا ودوليا، وبما تمثله من رمز للاستقرار والأمان والتسامح الحقيقي بين الأجناس الموجودين على أراضيها منذ سنوات
وقد سبق أن أعلنت دولة الإمارات 2019 عاماً للتسامح تسعى من خلاله إلى جعل الدولة عاصمة عالمية للتسامح، وتأكيد قيمته باعتبارها عملاً مؤسسياً مستداماً من خلال مجموعة من التشريعات والسياسات التي تهدف إلى تعميق قيم التسامح والحوار، وتقبل الآخر والانفتاح على الثقافات المختلفة، خصوصاً لدى الأجيال الجديدة بما تنعكس آثاره الإيجابية على المجتمع بصورة عامة.
هناك رسائل متعددة في زيارة البابا ونتائجها، حيث شارك في "المؤتمر العالمي للأخوة الإنسانية" برعاية مجلس حكماء المسلمين في الإمارات.
والتقى البابا للمرة الخامسة بفضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب شيخ الجامع الأزهر، وتمت مناقشة قضايا التقارب بين الأديان وتعزيز قيم التسامح والحوار ومواجهة التطرف في الإقليم والعالم.
أولا: كان طبيعيا أن تحتفي الفاتيكان بزيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات، لاعتبارات تتعلق بدورها إقليميا ودوليا، وبما تمثله من رمز للاستقرار والأمان والتسامح الحقيقي بين الأجناس الموجودين على أراضيها منذ سنوات ويعملون إلى جوار مواطنيها، إن ذلك يؤكد أن النظرة الحقيقية للإمارات ترتبط فعلياً بالثقل السياسي والاستراتيجي أيضاً للدولة العظيمة، خاصة أن البابا أشاد بقوة بالزيارة عندما عبر عن سروره لكتابة صفحة جديدة من تاريخ العلاقات بين الأديان، ومشاركته في فعاليات أسبوع الوئام العالمي، وقد أكد البابا إلى جانب الإمام الأكبر تحقيق إطار من الأخوة والتعايش بين الجميع، حتى ولو كانوا مختلفين، وحرص على نقله إلى كل الأشقاء المشاركين، وذلك سيمثل نقلة نوعية مهمة في إطار علاقات الأزهر الدولية برموزه وشخصياته الكبيرة، وبين رجالات الكنيسة والتي يمثلها البابا صاحب الولاية الدينية كتقريب بين الأديان السماوية الثلاث، مما سيشكل أرضية مشتركة دينيا وعقائديا متماسكا وقويا خلال الفترة المقبلة، خاصة أن الإمارات وضعت أسسا للتعامل مع أسبوع الوئام العالمي بين الأديان، والذي يحتفى به سنويا من كل عام وخلال الأسبوع الأول من فبراير منذ عام 2012، إن ذلك يشير وبقوة إلى أن دولة الإمارات سنت أسلوباً جديداً في الطرح والعمل، بل بنت مساراً جديداً في التعامل مع الأديان سيصبح من الآن فصاعدا نموذجا ومثالا قويا وبارزا في التعامل مع الأجناس والأديان الأخرى، انطلاقا من أرض الوطن الحبيب أبوظبي إلى كل ربوع الدولة في دبي والشارقة وأم آل قوين والفجيرة وعجمان ورأس الخيمة، مع العلم أن دولة الإمارات يقطن بها نحو مليون مسيحي من الطائفة الكاثوليكية، معظمهم من الفلبين والهند، إضافة لوجود العديد من الكنائس في الإمارات التي تنتمي لكنائس مسيحية متعددة، ومعبد للسيخ، وتجدر الإشارة إلى أن دستور الإمارات يضمن حرية ممارسة العبادات الدينية، بشرط ألا تتعارض مع السياسات العامة، أو تنتهك الأخلاق العامة، كما تحظر القوانين التمييز أو إهانة أي دين، وحسب قول البابا فرنسيس عن دولة الإمارات العربية إنها أرض تحاول أن تكون نموذجا للتعايش والأخوة الإنسانية، ومكانا للقاء الحضارات والثقافات المتنوعة في العالم.
ثانيا: لا يخفى على أحد أن انطلاقة مسار التسامح والسلام بين الشعوب انطلاقاً من أرض دولة الإمارات اتسق بالفعل مع قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة كما هو معروف وتماشيا مع أسبوع الوئام العالمي بين الأديان، والتركيز على أن التفاهم المتبادل والحوار بين الأديان يشكلان بعدين مهمين من الثقافة العالمية للسلام والوئام بين الأديان، باعتباره وسيلة لتعزيز الوئام بين جميع البشر، بصرف النظر عن الديانة أو الانتماء المذهبي، ومدخل مهم للتفاؤل بأن تنعم الشعوب والأجيال بالأمن والسلام وتعزيز التفاهم المتبادل والانسجام بين البشر، وبأن تحظى الشعوب والأجيال بالأمن والسلام، وهي الرسالة التي خرجت بها دولة الإمارات للعالم لتؤكد حضورها المبهر في الساحة الدولية، ومن ثم فإن نشر رسالة التوافق والوئام من خلال كنائس ومساجد ومعابد وغيرها من أماكن العبادة على أساس طوعي ووفقا للتقاليد الدينية المعتادة أصبح لغة جديدة للبشرية، ومدخلاً طبيعياً للتعامل بين البشر، خاصة أن البابا تفاعل مع رسالة الإمارات قبل حضوره لأبوظبي، وأعلن أن الحوار العالمي بين الأديان هو الأهم كرسالة للشعوب والدول في العالم أجمع، كما أكد البابا أن الإيمان بالله يوحد ولا يفرق، إنه يقربنا من بعضنا رغم الاختلافات، ويبعدنا عن العداء والكراهية، ولتبقى هذه الزيارة هي الأبرز في زيارات البابا الدولية، حيث سبق أن زار البابا منذ توليه عرش الفاتيكان أكثر من 12 دولة ذات غالبية مسلمة، وحرص خلال تلك الزيارات على الدعوة إلى الحوار بين الأديان وإدانة استخدام العنف باسم الرب.
ثالثا: لا شك أن زيارة البابا كان لها رسائل أخرى يمكن تفهم مبرراتها؛ حيث دعا البابا في تصريحات -استبقت الزيارة- إلى اتخاذ إجراءات عاجلة في سبيل احترام اتفاق وقف إطلاق النار في اليمن، والسماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى اليمن، ويشار إلى أن البابا فرنسيس ناشد قبل أن يتوجه إلى دولة الإمارات جميع الأطراف المعنية والمجتمع الدولي باحترام الاتفاقات القائمة لضمان توزيع الغذاء والعمل من أجل مصلحة المواطن.
ولا شك أن أحد أهداف الزيارة الأساسية بالنسبة للبابا كانت استمرار العمل مع قادة العالم الإسلامي، سعيا لجعل الشرق الأوسط والبلدان المسلمة مكانا أكثر أمنا للمسيحيين، واللافت أن ردود الفعل الدولية جاءت في سياق مهم لزيارة البابا وطرحه، وهو ما عبر عنه وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو بزيارة البابا فرنسيس لدولة الإمارات، واعتبرها "لحظة تاريخية للحرية الدينية". وكتب بومبيو في تغريدة على تويتر: يشجع القداس الأوّل للبابا في شبه الجزيرة العربية السلام والتفاهم بين اثنين من أديان العالم العظيمة، وباعتبار أن دولة الإمارات مهد للتنوع في مركز متوسط بين الشرق والغرب يربط بين الشعوب والديانات والبضائع والثقافات، وقد كانت ر سالة فرنسيس التي بدأها بالتحية: "السلام عليكم" بالعربية ختمها بقوله: "سعيد بأن الرب أعطاني هذه الفرصة لكتابة صفحة جديدة في تاريخ العلاقات بين الأديان على أرضكم" وعبرة وواضحة وتأتي في توقيت له دلالاته.
ثالثاً: انطلاقا من أن دولة الإمارات حرصت وباستمرار على تعزيز جسور التسامح والسلام في علاقاتها مع الدول الأخرى، من خلال ترسيخ أسس الاحترام المتبادل معها، وعملا بقيم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، الذي أرسى مرتكزات السياسة الخارجية الإماراتية على مبادئ عدة ثابتة، ومنها تعزيز السلام العالمي والصداقة والتعاون مع الدول والشعوب كافة، على أساس مبادئ حسن الجوار والاحترام المتبادل ورعاية المصالح المشتركة، فإن تأثيرات زيارة البابا فرنسيس ستكون واضحة في ظل رسالة بتوحد رؤية وصوت الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب في الصلوات والعظات لمليارات المسلمين والمسيح في أنحاء العالم، كما أن تحقق هذا على أرض بلد عظيم يقدم نموذجاً حقيقياً للتسامح بين الشعوب بدليل دور الإمارات الملحوظ في ملف التسامح، حيث لدينا أبرز مثال على ذلك كنيسة القديس يوسف، التي تعود إلى ستينيات القرن الماضي، وهي دليل على ثقافة التسامح وقبول الآخر مهما كان دينه أو جنسه، إن ذلك يعتبر امتداداً لنهج التسامح الذي تتبناه دولة الإمارات، وأرسى دعائمه الشيخ زايد بن سلطان، وهنا يجب الإشارة إلى أن الديانات الثلاث التوحيدية تحمل في تقاليدها الروحية تراث سلام قادرا على تعزيز الإخاء بالنسبة إلى المسيحيين؛ حيث يكفي أن نفكر بعظة الجبل المعروفة بالتطويبات كدستور أخوة وسلام، وبالنسبة إلى المسلمين نشير بالألقاب التسعة والتسعين التي يطلقونها على الله الرحمن، الرحيم، الغفور وبالنسبة إلى اليهودية نذكر بنبوءة أشعيا: لنصعد إلى جبل الرب فإنه يعلمنا أن نسلك طرقه.
تبقي التحية والتقدير لهذه الدولة العظيمة دولة الإمارات العربية المتحدة، بما تستهدفه من إنجازات حقيقية وعملية وضعت العالم العربي ومنطقة الخليج العربي في بؤرة اهتمامات وأولويات العالم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة