هل ستؤثر تغيرات التجارة الدولية الجيوسياسية على موانئ الإمارات؟
الموانئ العربية لعبت دورا محوريا في التجارة الدولية في مجالات الاستيراد والتصدير والترانزيت وتصدير النفط والغاز.
احتلت منطقتنا تاريخياً مكانة استراتيجية على خطوط التجارة الدولية خصوصاً البحرية منها بسبب الموقع الجغرافي في الربط بين الشرق والغرب، وازدادت تلك الأهمية بعد اكتشاف النفط.
لعبت الموانئ العربية دوراً محورياً في التجارة الدولية في مجالات الاستيراد والتصدير والترانزيت (العبور) وتصدير النفط والغاز والمنتجات البتروكيمياوية.
وحسب تقرير مجلس الشحن الدولي لموانئ الحاويات الـ50 الأكثر ازدحاماً بالعالم (لعام 2016) احتلت بعض الموانئ العربية مواقع متميزة ضمن التصنيف العالمي، وفي مقدمتها ميناء جبل علي الذي جاء في المرتبة التاسعة عالمياً، وميناء خورفكان في الإمارات في المرتبة 37، وميناء جدة في السعودية في المرتبة 40، وميناء صلالة العماني في المرتبة 46، وميناء بورسعيد المصري في المرتبة 50.
وفي تقرير شركة "لويدز" الصادر عام 2018 لنخبة موانئ الحاويات الـ100 في العالم حافظ ميناء جبل علي على مكانته كتاسع أهم ميناء للحاويات في العالم، حيث تمت مناولة 15.368 مليون حاوية مكافئة لحجم حاوية الـ20 قدما لعام 2017 بنمو 4% عن عام 2016، وتقدم ميناء جدة إلى المرتبة 36 وصلالة إلى المرتبة 39 وميناء طنجة المغربي في المرتبة 46 وخور فكان في المرتبة 78 وبورسعيد في المرتبة 56.
تنافس هائل بين الموانئ وتشير التقارير المختصة إلى هيمنة الموانئ الصينية على المراكز الأولى، فحسب تقرير لويدز فإن موانئ الحاويات الـ10 الأكثر ازدحاماً في العالم 7 منها في الصين، الميناء الأول هو ميناء شنغهاي، حيث تمت مناولة 40.233 مليون حاوية مكافئة لحجم حاوية 20 قدما لعام 2017، بارتفاع 8.3% عن عام 2016.
نحاول في هذا المقال استعراض أسباب التغيرات في التجارة العالمية وما يلحق بها من تغيرات، وفي مقدمتها نشوء موانئ جديدة، ونسلط الضوء على الموانئ الجديدة القريبة من موانئ الإمارات، ونناقش أهداف إنشائها ومدى تأثيرها، وهل بالإمكان الاستفادة من هذه الموانئ؟ نركز على ميناءين قريبين من موانئ الخليج هما "كوادر" الباكستاني و"تشابهار" الإيراني.
تغيرات التجارة العالمية
التغيرات في التجارة العالمية تنشأ لأسباب مختلفة، منها أساسا ذات طبيعة تجارية وفي مقدمتها الحفاظ عن الحصص السوقية بالنسبة للمصدرين والدفاع عنها وتعزيزها، وتقليص تكلفة الاستيراد بالنسبة للموردين، من خلال تقليص تكلفة البضاعة المستوردة وتخفيض تكاليف الشحن والنقل.
وهناك أسباب أخرى تهدف إلى تعزيز التحالفات، بما في ذلك الأمنية والعسكرية، والموانئ تاريخياً لعبت دوراً مهماً في نقل العادات الاجتماعية وتبادل و"تلاقح" الثقافات.
توفر التجارة العالمية البدائل للمستهلك، وهو من يختار السلع التي تناسبه بالأسعار التي يراها مناسبة واستناداً إلى ذلك فإن المنافسة الدولية تتزايد لتقديم الأفضل ولكن في بعض الحالات تقف "الحمائية" (أي الإجراءات المتخذة من السلطات الحكومية لفرض رسوم على السلع المستوردة لحماية الإنتاج الوطني من السلع المستوردة).
خلال الـ15 سنة الماضية حدثت تغيرات مهمة في خريطة الموانئ العالمية وفي مناطق مختلفة من العالم، وفي منطقتنا كان التحرك إلى حد كبير "هادئا" لكن خلال السنوات الـ5 الأخيرة بدا التحرك بشكل أكبر في تطوير الموانئ في منطقتنا أكبر خصوصاً في بحر العرب وخليج عمان.
الموانئ الناشئة والقريبة من موانئ الخليج العربي
من أهم الموانئ الناشئة والقريبة من موانئ الخليج العربي التي نتوقع أن تحظى بحركة شحن ومناولة متزايدة والتي ستسعى لاقتطاع حصة منها.
1. ميناء "كوادر" (Gwadar) الباكستاني
2. ميناء "تشابهار(Chabahar) الايراني
يطل الأول على بحر العرب، ويطل الثاني على خليج عمان، والخريطة التالية توضح موقع الميناءين:
* خريطة توضح موقع ميناءي "كوادر" الباكستاني و"تشابهار" الإيراني
ميناء "كوادر الباكستاني.. أكثر من مجرد ميناء
تاريخياً، منطقة ميناء "كوادر" استحوذت عليها قوى عديدة منها البرتغاليون والفرس وسلطنة عمان، والتي باعت منطقة "كوادر" بـ3 ملايين دولار عام 1958 (في 8 سبتمبر 1958) حيث كانت تلك المنطقة تحت سيطرتها ووصايتها.
في عام 1969 حاولت باكستان إيجاد شريك لتطوير الميناء مع الروس ولم تنجح، وفي عام 1973 حاولت مع الأمريكان ولم تنجح، بدأ التعاون مع الصين "كمبادرة" من الصين في 2001، ثم قامت الصين تدريجياً بالدخول بجدية في منطقة الميناء، الذي تم افتتاحه عام 2009.
إدارة الميناء التشغيلية منحت عام 2007 لشركة سنغافورية، بموجب عقد لمدة 25 سنة، وإعفاءات جمركية لـ40 سنة، تم إلغاء العقد تحت ذريعة "عدم الإيفاء ببنود العقد"، وسلمت إدارة الميناء للصينيين في عام 2012 (بعد مفاوضات مع الصينيين أيضاً)، وخصصت الصين 62 مليار دولار للمنطقة كدعم واستثمارات.
نظرة الصين الاستراتيجية
نظرة الصين الاستراتيجية لميناء "كوادر" والمنطقة الحرة التي أُنشئت حوله تستهدف ثلاثة أهداف محورية:
1. ربط الطريق البحري من خلال ميناء "كوادر" بالحزام البري في مبادرة الصين "حزام واحد.. طريق واحد"، ومن خلال طريق بري وسكك حديد، وهذا يعني ربط دول وسط آسيا من جهتين براً وبحراً.
2. ربط جنوب غرب الصين بطريق بري وسكك حديد بالميناء، وفي هذا الربط اختصار كبير لرحلات الشحن البحرية التي تحتاج 45 يومأ للوصول لموانئ الصين الشرقية ونقل البضائع إلى جنوب غرب الصين، وجود الميناء اختصر الرحلة من 45 يوماً إلى 10 أيام، سمي هذا الطريق بـ"ممر الصين-باكستان الاقتصادي" اختصارا (CPEC) ، ويشمل النقل شحنات النفط والغاز القادمة من موانئ الخليج العربي.
3. استهداف الثروات الهائلة في أفغانستان التي تعتبر دولة "مقفلة" ليس لديها سواحل بحرية والطرق البرية والميناء يسهلان الاستثمار، وهنا تقف الهند "عائقاً" أمام هذا الهدف كما سنوضح لاحقاً.
ميناء "تشابهار" الإيراني
يقع ميناء "تشابهار" الإيراني في مقاطعة "سيستان" جنوب غرب إيران ويطل على خليج عمان.
كانت هناك عدة محاولات للحكومة الإيرانية لتطوير الميناء تمتد إلى عام 1973، ودائماً كان هناك فشلاً وتلكؤاً في تطويره، الاتفاق الباكستاني الصيني لتطوير ميناء "كوادر" أثار حفيظة الهند التي لم يرق لها التمدد الصيني على حدودها، فقامت بعقد اتفاقية مع إيران على تطوير الميناء وإدارته، وأنفقت الهند 85 مليون دولار على تطوير الميناء.
في عام 2016 تم توقيع اتفاقية ثلاثية بين الهند وإيران وأفغانستان يهدف لإنشاء ممر بري يربط الدول الثلاث: من الهند إلى إيران بحراً ومن إيران إلى أفغانستان عبر ممر بري متحاشياً باكستان.
الخريطة التالية توضح موقع الميناء وأحد الطرق البحرية بين الهند، وإيران والطريق البري من الميناء إلى أفغانستان.
* خريطة توضح موقع ميناء "تشابهار" والطريق البحري الرابط مع الهند والبري الرابط مع أفغانستان
نظرة الاستراتيجية الهندية
تستهدف الاستراتيجية الهندية الأهداف التالية:
1.محاولة الحد من التوسع الجغرافي للتعاون الصيني-الباكستاني
2. أن تبقى الهند لاعباً اقتصادياً وسياسياً لا يمكن تجاهله في أفغانستان ويقلل من اعتماد أفغانستان على باكستان اقتصادياً.
3. الوصول إلى دول وسط آسيا اقتصاديا عبر طرق برية.
وعلى الرغم من استعجال الهند وإيران على افتتاح الميناء رسمياً، الذي قد يتأخر إلى 2019 بسبب العقوبات على طهران، إلا أن الهند جربت الخط البحري-البري، وأرسلت شحنة حنطة إلى أفغانستان.
نظرة نقدية
الكثير من المقالات تناولت هذا الموضوع واستخدمت مصطلحات عديدة مثل "حرب الموانئ"، "الحرب الخفية" وذهب بعضها إلى أن هذين الميناءين "سيقضيان" على موانئ الامارات وعلى وجه الخصوص ميناء جبل علي، اطلعت على العشرات من التقارير الصحفية والمتخصصة وأفلام فيديو حول الموضوع، وأود بعد هذا الاستعراض المختصر للموضوع أن أضع الحقائق التالية أمام القارئ:
1. درجة أهمية الميناءين متفاوتة بشكل كبير وفرصة نمو وتوسع ميناء"كوادر" أكبر بكثير من فرصة نمو وتوسع ميناء "تشابهار"، فالأول هو جزء من مبادرة "الحزام والطريق" الصينية، ونموه مرتبط مباشرة باحتياج الصين لمنفذ ذي موقع استراتيجي على خليج عمان، إضافة إلى الطبيعة الجيولوجية للميناءين المختلفة، فميناء "كوادر" قادر على استقبال سفن ذات غاطس كبير (مياه الميناء عميقة) بعكس ميناء "تشابهار"، حيث إن طبيعة جيولوجيا الميناء صخرية ولا يستطيع استقبال السفن الكبيرة.
2. نمو أي ميناء لا يرتبط فقط بالحركة التجارية والبنية التحتية القوية وأنظمة التشغيل والمناولة والتكنولوجيا المستخدمة، بل يرتبط أيضاً بالاستقرار الأمني والبنية القانونية للميناء والمنطقة الحرة المحيطة به، وهذه من أهم العوامل الجاذبة للاستثمار الأجنبي.
3. حافظ ميناء جبل علي على تسلسله العالمي رغم المنافسة الشرسة مع موانئ آسيوية، فمكانة أي ميناء تأتي من تكامل الخصائص الجغرافية والتشغيلية والتكنولوجية والبنية التحتية والاستقرار الأمني والاقتصادي، هذا التكامل يحتاج إلى وقت، فهناك تحديات أمام كلا الميناءين، ولكن بالإدارة الصينية واحتياج الصين لميناء "كوادر" سيسرع من نمو الميناء، لكن الوضع مختلف في ميناء "تشابهار" مع حال عدم استقرار سياسي في إيران وارتباط إيران بتمويل الإرهاب ودعم مليشيات مسلحة قد يعرقل استمرار المشروع.
4. من المحتمل توسيع التعاون الروسي-الصيني في منطقة وسط آسيا، مما يعزز من أهمية ميناء "كوادر".
5. واستناداً لما تقدم لا أعتقد أن ما أطلق من شائعات حول التأثير السلبي الجسيم للميناءين على موانئ الإمارات خاصة ميناء جبل علي سيكون في الأمد القصير أو المتوسط، وإنما كتوقع سيحتاج ميناء "كوادر" فقط لكي ينافس ميناء جبل علي إلى 5-10 سنوات، ومن غير المتوقع خلال هذه الفترة أن ميناء جبل علي سيبقى على ما هو عليه اليوم، أما ميناء "تشابهار" فلا أعتقد أنه سيشكل منافسة مهمة خلال الـ10 سنوات المقبلة.
وبإمكان شركات الخدمات اللوجستية وشركات الاستيراد والتصدير الإماراتية التخطيط للتواجد في المنطقة الحرة في "كوادر"، و الاستفادة من موقع الميناء والطريق للسوق الصينية.
6. دعم العلاقة المتميزة بين الإمارات وباكستان باستثمارات استراتيجية في المنطقة الحرة في "كوادر"، من خلال إنشاء صناعات تستخدم المواد الأولية في باكستان والاستفادة من العمالة الرخيصة (نسبياً).
7. في حال ربط طريق الممر الاقتصادي الصيني-الباكستاني مع أفغانستان فسيوفر فرصا استثمارية هائلة تتعلق باستخراج المواد الأولية مثل الحديد والنحاس والليثيوم والذهب والأحجار الكريمة. ويمكن للشركات الاستثمارية الإماراتية والخليجية الاستفادة من هذه المزايا، والتي تعززها علاقات إيجابية مع الحكومة الأفغانية، وقبول في الشارع الأفغاني وبين الأطراف المتنازعة لدور الإمارات الإنساني في أفغانستان.
علينا دائماً التفكير في كل القضايا الاقتصادية بمنظور شامل ومفتوح وليس بمنظور جزئي أو قطاعي، ومن خلال ثوابت وطنية نفكر في كيفية احتواء التهديدات والمخاطر الاقتصادية وتحويلها إلى فرص واستحداث استراتيجيات دفاعية للحد من تأثيراتها، والأهم من كل هذا عدم تبني أفكار سلبية تدعو إلى التشاؤم دون إخضاعها لعملية تصفية "فلترة"، والنظر في تقييمها من خلال تلك الثوابت الوطنية للاقتصاد.
---------------------وضاح ألطه
عضو الجمعية العالمية لاقتصاديات الطاقة
عضو المجلس الاستشاري الوطني لمعهد الأوراق المالية والاستثمار في الإمارات
تويتر: @waltaha aXA6IDE4LjExNi40MC4xNTEg جزيرة ام اند امز