نُظم الحكم ليست غاية في ذاتها، أياً كانت الفلسفة الكامنة خلفها.
لأن نظام الحكم هو وسيلة لتحقيق مصالح الناس، وإسعادهم، وتأمين مستقبلهم، وضمان الحياة الكريمة لهم ولأبنائهم، هذه هي غاية كل نظم الحكم في العالم، وعلى مر التاريخ، وهذا هو جوهر الفلسفة السياسية في جميع الحضارات والأديان والمذاهب، لذلك فإن شكل نظام الحكم ومؤسساته ما هو إلا وسيلة لتلك الغاية، وعلى المجتمع أن يختار من الوسائل ما يحقق له غاياته، وألا يقدس الوسيلة ويجعلها غاية في ذاتها، ولا يعلو بالوسيلة لتكون عند مستوى الغاية، فالغاية هي الهدف الذي تتغير في سبيل الوصول إليه الوسائل.
والأحزاب السياسية هي وسيلة أبدعها العقل البشري في الحضارة الغربية؛ استجابة لتحديات واقعه التاريخي، وانطلاقاً من رؤيته للعالم، وفلسفته، ومسلماته، وجوهر فكرة الحزب أنه وسيلة لحماية الأفراد من تغول الحكومات عليهم، فلكي لا يقف الفرد أمام جبروت الحكومة منفرداً، فتضيع حقوقه، بل قد تدوسه آلة البيروقراطية دون أن تدري؛ لأنها لن تراه، اخترع الإنسان فكرة ومؤسسة الحزب لتجمع الأفراد المتفقين على فكرة معينة أو برنامج معين، أو ينتمون إلى أيديولوجيا معينة، وتساعدهم على التعبير عن مصالحهم بصورة جماعية، وحماية هذه المصالح، والتنافس من أجل امتلاك السلطة لتطبيق برنامج المصالح هذا بعد الحصول على موافقة أغلبية المجتمع.
هذا الدور للأحزاب كانت تقوم به في حضارات أخرى غير الحضارة الغربية، مؤسسات غير الأحزاب، مثل القبيلة، والطائفة، والنقابة، والعصبية والعلماء، ومشايخ التجار، وأرباب الحرف، أو جماعات المصالح، أو غيرها.. جميع هؤلاء كانوا يؤدون بعض أو كل وظائف الأحزاب، طبقاً لطبيعة المجتمع وجوهر مفهوم السياسة فيه، وطريقة الحكم بين مواطنيه.
وفي أمريكا الجنوبية تم إبداع مفهوم الكوربراتية Corporatism، ليكون نظاماً للحكم تتبعه معظم دولها وعلى رأسها البرازيل والأرجنتين، وهو نظام لا ينفي وجود الأحزاب السياسية، ولكنه لا يجعلها الفاعل الرئيسي في النظام السياسي، والكوربراتية نظام قديم ورثته أمريكا اللاتينية عن إسبانيا والبرتغال، وتعود جذوره إلى نظام الحرف والنقابات والطوائف المهنية في الأندلس، حيث تكون إدارة الدولة، والشأن العام من خلال منظومة قانونية تنظم علاقات جميع الجماعات المهنية، والطوائف الحرفية، والنقابات مع أعضائها من ناحية، ومع الدولة من ناحية أخرى.
فالكوربراتية تركز على تنظيم علاقات العمل، والسياسات الاجتماعية، وعلاقات الدولة بالجماعات الاجتماعية، والنقابات، وأصحاب الحرف، والاتحادات، والطوائف المهنية، وتضبط علاقاتها بمركز صنع القرار، وهي تركز على الأبعاد القانونية، ولكن بنفس القوة تركز على الأعراف، والأنماط السلوكية غير الرسمية، وتربط بين الحقوق والواجبات، وبين القانون والقوة، وبين القانون والمصلحة، وفي كل ذلك تعلي قيم التعددية والتفاوض والمساومة، أكثر من قيمتي الصراع والمنافسة اللتين هما جوهر مفهوم الأحزاب السياسية والعمل الحزبي.
وبهذا، فإن الكوربراتية تتخذ من النقابات، والجماعات الاجتماعية الأخرى كأصحاب الحرف، وأرباب المهن، وجماعات رجال الأعمال، والتجار وغيرهم، فاعلين سياسيين أهم من الأحزاب، لأن هذه الجماعات تعبر عن مصالح حقيقية، وليست شعارات وضعها قادة الأحزاب، والعضوية في هذه الجماعات عضوية إجبارية، دائمة بحكم المهنة، أو الانتماء لحرفة، وليست اختيارية؛ يغيرها الإنسان بصورة انتهازية طبقاً لمصالحه الوقتية، كما الحال في الأحزاب السياسية، حيث يتحول الأعضاء من حزب إلى آخر طبقاً لمصالحهم ومؤامراتهم.
لذلك على الدولة المصرية إذا أرادت بناء نظام سياسي قادر على تحقيق طموحات الشعب عليها أن تركز على تقوية النقابات، وتترك الأحزاب حتى تنضج وتكون قادرة على أن تقوم بدورها الحقيقي كمؤسسة للتنشئة السياسية، وتأهيل الكوادر، وإعداد القيادات، وتقديم البدائل السياسية الناضجة، وتمتين النظام السياسي ليكون قادراً على مواجهة تحديات المستقبل.
وحتى يتم ذلك، لا بد من تنظيم نقابات واتحادات لكل المهن والحرف، والجماعات الاجتماعية، وإطلاق طاقاتها، وفتح المجال أمامها لتقوم بالدور التنظيمي، والتنموي المطلوب، فتكون نقابة الأطباء أهم من وزارة الصحة في ضبط ممارسات مهنة الطب وأخلاقياتها، وحماية المواطن من سلبياتها، وتكون نقابة الفرانين أكثر فاعلية من وزارة التموين في ضمان حصول المصري على "العيش" الذي يضمن له العيش.. وهكذا.
وهذا بدوره يتطلب أن يتم إنشاء نقابات لجميع المهن والحرف والتخصصات، ثم بعد ذلك يتم تكوين اتحادات نقابية لكل مجموعة من المهن تتقاسم مجالاً معيناً من مجالات الحياة، فتكون هناك نقابات لكل التخصصات الطبية أو الهندسية أو الزراعية، ثم يكون هناك اتحادات تجمع كل تخصص.
وهنا ينبغي أن يحدد القانون حدود دور ووظائف النقابة، بحيث لا تتعدى الحفاظ على مستوى أداء المهنة، ووضع ضوابط ومعايير لها، وتحديد الكفاءات والمهارات المطلوبة للانضمام إليها، بحيث لا يدخل فيها إلا من هو قادر على القيام بها على أفضل وجه، وكذلك تراقب أخلاقيات ممارسة التخصص الذي تنظمه، وترعى العاملين فيه عند العجز، أو الحاجة، أو في الأزمات... ولا يجوز لها أن تتدخل في أي شأن محلي خارج نطاق تخصصها، أو خارج حدود الدولة، فلا تقوم بدور الحزب السياسي، أو تسعى لتحقيق أهداف سياسية خارج تخصصها، ولعل وضع النقابات في تونس هو الأكثر قرباً من هذا النموذج، وإن لم تحقق بعد كامل أهدافها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة