الشعبوية السياسية ظاهرة تنتمي إلى عالم ما بعد الحقيقة، حيث لا يكون للحقيقة وزن ولا أهمية، وإنما الوزن الأكبر والأهمية الأكثر للمعلومة، التي تحشد الجماهير وتحركها بغض النظر عن صدقها من كذبها.
وبغض النظر عن مدى كون هذه المعلومة تحقق المصلحة الوطنية مستقبلا، لأن المهم هنا هو صناعة البطل الشعبوي، الذي سيحقق الفوز أو النصر أو المجد القومي.
كانت الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2008، والتي فاز فيها الرئيس الأسبق باراك أوباما، بداية ظاهرة الشعبوية السياسية، حيث تجاوزت الحملة الانتخابية لباراك أوباما كل الأطر السياسية والإعلامية التقليدية، وتعاملت مباشرة من خلال وسائل التواصل الاجتماعي مع الناخبين، خصوصًا الشباب منهم، واستطاع حينها المرشح الرئاسي باراك أوباما أن يحصل على تمويل حملته الانتخابية من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أيضا، وبتبرعات صغيرة جدا لا تتجاوز الخمسين دولارًا في معظمها.
منذ ذلك التاريخ تمددت ظاهرة الشعبوية السياسية في معظم دول العالم، وأصبح الكثير من القيادات السياسية يوظف وسائل التواصل الاجتماعي بطريقة شعبوية تدغدغ مشاعر العوام من المواطنين للحصول على تأييدهم لسياسات وقرارات قد لا تكون في حقيقتها محققة لمصالحهم، أو لمصالح أوطانهم، ونجح كثيرون في توظيف هذه الظاهرة للفوز بالمناصب السياسية الكبرى دون أن يكون لهم رصيد سياسي حقيقي، أو ينتمون إلى كيانات سياسية راسخة، ولعل انتخاب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في رئاسته الأولى 2017 كان مثالا واضحا على ذلك، فقد فاز حزبه "إلى الأمام"، الذي لم يمض على تأسيسه أشهر عدة على أحزاب سياسية راسخة لعقود من الزمن، وذلك بفضل ظاهرة الشعبوية السياسية.
وسيذكر التاريخ أن العالم العربي كان أكثر مناطق العالم معاناة من الشعبوية السياسية، حيث انهارت دول، وتفككت مجتمعات، وضاعت ثروات وطنية، وتراجعت أوطان إلى الخلف لقرون بسبب الشعبوية السياسية، التي جاءت بـ"الربيع العربي" المشؤوم، أو جاء هو بها.
فكل ما حدث من فوضى في كثير من الدول العربية في عام 2011 كان بسبب تمكن ظاهرة الشعبوية السياسية من خلال انتشار وسائل التواصل الاجتماعي.
واليوم مع الأزمة الأوكرانية، وحدوث المواجهة التاريخية بين نمطين من القيادات السياسية هما: أولا، النموذج التقليدي لرجال الدولة ممثلا في القيادة الروسية بمظهرها الرسمي المحافظ على التقاليد السياسية في الشكل والخطاب، وفي التعاطي مع الواقع والجمهور والإعلام. وثانيا، النموذج الشعبوي المبالغ في الشعبوية مظهرًا وخطابا وتعاملا إعلاميا ممثلا في القيادة الأوكرانية، التي تخرج عادة بملابس "شبابية" تشبه الملابس الرياضية، حتى وإن كانت ذات أولوان عسكرية، وفي خطاب شعبوي يخلط بين الحقائق والرغبات والتمنيات والدعاية السياسية.
هذان النموذجان، المحافظ والشعبوي، يتواجهان على الأرض في معركة حامية الوطيس، يعبر عنها النموذج المحافظ بطريقة تقليدية في صورة بيانات تحمل أرقامًا وحقائق من الممكن التحقق منها، ويعبر عنها النموذج الشعبوي بعبارات عاطفية، وتمنيات، ودعاية، وخليط من المشاعر والمعلومات تعبر بصورة صادقة عن عالم ما بعد الحقيقة.
يساند النموذج الشعبوي الأوكراني نماذج شعبوية أخرى في أوروبا وأمريكا، جميعها تسير عكس حقائق الواقع، فالمعركة في أوكرانيا ليست في صالح القيادة الأوكرانية، والعقوبات الأوروبية الأمريكية على روسيا كانت نتائجها السلبية على المجتمعات الأوروبية والأمريكية أشد قسوة منها على الشعب الروسي، الذي يستطيع بحكم تجربته السوفييتية امتصاص آثار العقوبات أكثر من المجتمعات الرأسمالية المترفة.
سوف يكتشف الإنسان الأوروبي والأمريكي، وقبلهما الأوكراني، أن الشعبوية السياسية كانت وبالا عليه وعلى مجتمعه، وأن القيادات الشعبوية مارست "خديعة سياسية" من خلال توظيف الدعاية بدلا من الالتزام بالمسؤولية الوطنية، حينها لن يكون للشعبوية السياسية مستقبل بعد أزمة أوكرانيا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة