من عهد فاروق.. كيف حاولت "طيور الظلام" أخونة الثقافة؟ (3)
"المعرفة سلطة أقوى من السلطة السياسية".. لذلك عمد تنظيم الإخوان الإرهابي منذ نشأته على طرح مكونه الثقافي وفرض أفكاره القديمة وإجهاض أي إنتاج إبداعي عبر نشر ثقافته الظلامية.
أدرك الإخوان أن الثقافة هي أحد أركان بناء وتنمية المجتمعات الحديثة التي تتكون من فكر ومادة، وتعتبر الثقافة بمثابة مقياس لمدى الرقي الفكري والأدبي والاجتماعي للأفراد والجماعات.
ولا يقتصر مفهوم الثقافة على الأفكار في الآداب والفنون وحسب، بل هي أيضا تتعدى لتعديل السلوك والأذواق والعادات والأعراف الاجتماعية، والثقافة تحتاج إلى مناخ حر يشجّع على التفكير الإبداعي لتنمو ولتتجدد، ويظهر هذا في الإنتاج المتدفق في كافة المجالات الأدبية.
ولأن المجتمع الذي يتخيله تنظيم الإخوان هو قديم، والدولة التي تسعى لإنشائها لا تعرف الثقافة بهذا المعنى، فأدرك مؤسسه حسن البنا مبكرا أن أكبر عائق يقف أمامه في نشر ثقافته الظلامية هم المثقفون، وأن عليه القضاء على روح الثقافة المصرية الوثابة، التي كانت تتشكل في منتصف عشرينيات القرن الماضي، فهم قادرون على دحض أفكار جماعته، وكشف ألاعيبهم وإحباط خطتهم للسيطرة عبر ثلاث خطوات الأولى "تكوين جيش إسلامي" يتم تربيته وتكوينه على منهج خاص سري، يجعل أفراده طوع إشارة المرشد، والثانية: العمل على تربية المجتمع وتغيير العرف العام بتغيير أدواته الثقافية، والثالثة: التحرك لانتزاع أدوات الحكم من يد الحكومات التي لا تطبق شرع الله.
نجح البنا في خطوته الأولى وكون جيشه عام 1938 تحت اسم "التنظيم الخاص"، وأراد أن يحقق خطوته الثانية وهي تغيير العرف العام والثقافة السائدة فلم يتمكن، نظرا لكونها عملية صعبة ومركبة، فقرر تنفيذ خطوته على مرحلتين كالتالي:
المرحلة الأولى تشويه الثقافة السائدة واتهامها:
تمثلت في وضع حائط صد جماهيري ضد الثقافة العامة المنتشرة، في المجتمع والتي تؤمن بالتعددية والحرية، والانطلاقة في التفكير.
وعملوا على الحد من تفاعلها مع قضايا المجتمع بصناعة حاجز بينها وبين الجماهير عبر ملاحقتها وملاحقة المشتغلين بها بأنهم ضد الدين الإسلامي، وأنهم مقلدون للغرب منسحقون أمامه، أو أنهم عملاء ضمن مخطط الغرب للغزو الثقافي للأمة المسلمة، وأوهموهم بأن الواجب على كل مسلم ومسلمة التوقف عن التعاطي مع منتجهم الفكري بل ومحاربتهم، لهذا حاربوا طه حسين، ولطفي السيد، والعقاد، وكل مفكر مستنير، وأطلقوا عليهم الشائعات وحرضوا عليهم السفهاء.
المرحلة الثانية تكوين حمولة ثقافية ماضوية جامدة:
تمثلت المرحلة الثانية في طرح مكون ثقافي على السلطة العليا لفرضه على المجتمع، سواء عن طريق سلطة الملك أو سلطة الحكومات التنفيذية.
هذا المشروع في حقيقته، يحمل فكرا ظلاميا ماضويا بامتياز، قاموا بالترويج له باعتباره هو عين الثقافة الإسلامية التي يجب أن تسود، هذا المكون قادر على تجفيف منابع الثقافة والتفكير الإبداعي من المجتمع تماما.
وضع ملامح هذا المكون "المؤسس حسن البنا" في رسالته "نحو النور" التي تقدم بها إلى الملك فاروق في أكتوبر/تشرين الأول 1936، ينصحه فيها بتغيير العرف العام باتخاذ تدابير منها "القضاء على التعددية" وذلك عبر القضاء على الحزبية والعمل على تكميم الأفواه تحت مزاعم توحيد صف الأمة الإسلامية، والقضاء على التعددية قتل للمناخ الثقافي الحر.
ثم طالبه بـ"محاربة مدنية المجتمع والعمل على عسكرته" بالإكثار من تكوين فرق الشباب العسكرية وتربيتهم على أسس القتال، كما طالبه باستخدام الأزهريين في الوظائف العسكرية والإدارية، في خطوة لو أضيفت إلى ما سبق تصنع مجتمعا جامدا غير قادر على إنتاج الثقافة الفاعلة التنويرية.
ولم يكتف بهذا بل طالب بـ"وضع الجميع تحت المراقبة" وعدم الفصل بين الناحية الشخصية والعملية، وأن لا يحق للموظف أن يكون له شخصيته المستقلة، وفي هذا المطلب يكشف "البنا" عن أخطر أفكار الإخوان، إذ أنهم يؤمنون بأن عليهم التجسس على الناس والتحكم في تصرفاتهم.
كما طالبه بـ"تشديد العقوبات على من لم يحترم الآداب العامة" دون أن يحدد ما المقصود بالآداب العامة وما هي تلك العقوبات، كما طالبه أيضا "بفرض الحجاب على النساء" بزعم أن الحجاب يقاوم التبرج، وخص المدرسات والتلميذات والطبيبات والطالبات بالتشدد في متابعتهم لارتدائهم الحجاب، كما طالب بمنع الاختلاط واعتبار الخلوة جريمة يعاقب عليها القانون.
لم يكتف بهذا بل طالب بـ"فرض الرقابة على كل أشكال التعبير" على دور السينما والتمثيل والتشديد في اختيار الروايات، ومراقبة الأغاني والتشدد في اختياراتها، ومراقبة الصحف وتوجيهها وتشجيع الكتاب والمؤلفين للكتابة في الموضوعات الإسلامية الشرقية، واختيار ما يذاع على الأمة من محاضرات وأغان وموضوعات، مع استكمال مهمة الرقابة بفعل "المصادرة" فقد طالب بمصادرة الروايات والكتب التي يراها هو فاسدة وكذلك الصحف التي تستغل الشهوات، دون أن يحدد ما المقصود بـ"تستغل الشهوات"، كما تفتق ذهنه أن السبيل الوحيد لخلق مجتمع ثقافي هو" توحيد الزي للرجال وكذا للنساء"، وأخيرا حتى يتمكن من فرض أفكاره وتحطيم أي نافذة فكرية طالب الملك بـ"تكوين هيئة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الحسبة)" التي لها حق التسلط على الناس بزعم أنهم يرتكبون المعاصي التي في ذهنه فقط.
التسلل في أوساط المثقفين:
من المؤكد أن الملك لم يستمع إليه، ومن المؤكد أيضاً أنه لم ييأس في العمل لتطبيق فكرته، فقرر التسلل إلى عالم المثقفين، ونشر أفكاره فيما بينهم، وتكوين تكتلات فكرية تبدو من ظاهرها أنها تهتم بالحقل الثقافي، في حين أنها تعمل على ترسيخ أفكار الماضوية الظلامية.
فعمد إلى جذب بعض أبناء الريف الذين التحقوا بالجامعة، وتحديدا الذين صدمتهم المدنية الحديثة وشعروا بالاغتراب وافتقدوا الأجواء الريفية الحميمية، هؤلاء اعتبروا أن كل ما هو حديث هو مناف للقيم والأخلاق، ومنهم بدأ يكوّن ما سيعرف بقسم الطلاب، ثم بهم أصدر مجلات وصحف وكتب الإخوان المسلمين، التي سربت أفكاره للمجتمع، الذين أوهمهم أن جماعتهم "رابطة علمية ثقافية".
قناع الثقافة وحصان طروادة:
مرت على الإخوان بعد هذه الأحداث وقائع انتصار وأخرى انكسار، وجدوا في المسار الثقافي قناعا مناسبا لإخفاء وجههم الحقيقي، وحاولوا عبر العقود التالية التركيز على اختراق عالم الثقافة، فصنعوا تياراً مزيفاً أطلقوا عليه تيار (إسلامية المعرفة) الذي جاء نتيجة وثمرة عمل "المركز العالمي للفكر الإسلامي"، إحدى مؤسسات الإخوان العالمية، وصنعوه لاستلاب المعرفة والثقافة والفكر، وتحويلها إلى قوة دافعة ومساندة للحركة الإسلاموية والإخوان بالتحديد.
فقد علمتهم التجربة أن المعرفة سلطة أقوى من السلطة السياسية، فهي التي تمكنهم من التسلط على كل شيء في الدولة والمجتمع، وكل ما عليهم هو امتلاك أدوات المعرفة والثقافة الاجتماعية والإنسانية واحتوائها، ومن ثم فرض مشروعهم القديم الماضوي الظلامي، خطر هذا التيار أنه يتهم مخالفيه بالانسحاق للغرب أو بالتطبيع أو أنهم إنتاج مأزوم مهزوم أمام المعرفة الإسلامية، هذا التيار رغم أنه ظهر في منتصف التسعينيات إلا أنه لم ينتج فكرا ولا علما ولا نظرية يمكن اعتمادها في مجال المعرفة، كما فشل في تقديم تفسير منطقي لعملة المعرفة والفكر، وكل ما قدمه أن مهد العقل الجمعي العربي والإسلامي، إلى وجود ما يمكن تسميته بالأسلمة ( أسلمة المعرفة/ أسلمة الفكر/ أسلمة الثقافة/ أسلمة الحكم/ أسلمة المجتمع).
وفي سبيل الاستحواذ على أدوات صناعة الثقافة، ادعوا أنهم مثقفون، وأن ثقافتهم هي نتاج طبيعي للمجتمع الحر، فتسللوا إلى عالم صناعة الثقافة، وامتلكوا دوراً للنشر، ومكتبات عامة، وشركات توزيع، وصحف ومجلات، وصنعوا كتاباً وأوجدوا لهم قراء، وحاربوا دور النشر الأخرى، أو سيطروا عليها ماليًا، حتى لا ينافسهم أحد، وتسللوا إلى غيرها ليتحكموا في سياستهم التحريرية ويجهضوا أي إنتاج إبداعي.
كما أداروا معارك كبيرة ضد الأدباء، شحنوا فيها الجماهير ضد أي كتابة إبداعية، مثل ما حدث في مصر في مطلع الألفية الثانية، عندما أطلقوا المظاهرات والحملات الصحفية ضد رواية أعشاب البحر، لم يكن الغرض من الحملة منع الرواية من الصدور، فقد صدرت بالفعل، بل كان الغرض تخويف الأدباء من الكتابة وإرهاب كل دور النشر سواء الرسمية وغيرها بأنهم سيتم ملاحقتهم بالشائعات بأنهم كفار وملحدون ويريدون هدم ثوابت الإسلام.
وفي الوقت الراهن، سخّروا اللجان النوعية التابعة لهم للترويج للكتب والروايات التي يريدونها، وبالتالي تحكموا في الذائقة الفكرية والثقافية للشباب، فلم تعد جودة الرواية بحجم الإبداع اللغوي والفكري أو التناولي الإنساني لأبطالها، بل أصبحت جودة الرواية محكومة بمدى تمسك أبطالها بالتقاليد، وإلا نال الكاتب والكتاب الكثير من التشهير.
إن المعركة مع التيار الإسلاموي الماضوي؛ سواء الإخوان أو غيرهم من الجماعات المتطرفة، لا يجب أن يقتصر على الشق الأمني، رغم أهميته، بل يجب الانتباه والتحذير من الأقنعة التي يرتدونها للتسلل إلى المجتمع، لفرض أفكارهم القديمة في ثوبها الجديد التي لم ولن يتخلوا عنها أبدا، والتي للأسف ستعمل على هدم المجتمعات وتبديد الطاقات وفوات فرص التنمية والتحديث.
aXA6IDMuMTMzLjE1MS45MCA= جزيرة ام اند امز