حتى لو لم تكن أميركا العميقة هي التي قالت كلمتها أمس، لأن المنافسة كانت "على المنخار"، فإن أميركا الغاضبة ساهمت قطعاً في هذا الانتصار.
قبل هذه الانتخابات الأميركية كان كثيرون من المتابعين في العالم الثالث، وأنا واحدٌ منهم، يعتقدون أن سمة عدم فهم النخب أو بعضها لميول شعوبها السياسية هي عموماً سمة عالمْثالثية. من قراءة وسماع ومشاهدة ردود فعل العديد من المحللين الأميركيين خلال اليوم والليلة الأميركيين الطويلين تبيّن أن المسافة، مسافة النخب عن اتجاهات الرأي العام في بلدانها، هي أيضا سمة غربية وأميركية تحديداً.
تكفي قراءة بول كروغمان الفجائعية لفوز دونالد ترامب بالرئاسة الأميركية في الـ"نيويورك تايمس" لكي نفهم حجم استياء مثقف وعالم اقتصاد أميركي من نفسه وحجم اعترافه بعدم معرفته هو وصحيفته والبيئة التي يقيم فيها لما يحدث في عوالم الداخل الأميركي وبيئاته الريفية والعمالية. فكيف كان يمكن لنخب نيويورك وسان فرنسيسكو وواشنطن أن تستخف بمرشح كدونالد ترامب أظهر قدراً من الممارسات الشخصية الرديئة والمالية (عدم دفع الضرائب) والجهالة بملفات كبيرة ولم تتوقع أن تصوت له "أميركا العميقة" بهذه القوة ولو ضمن تنافس شديد وشاق؟
لقد بعث الناخب الأميركي خلال ثمانية أعوام رسالتين متناقضتين: رسالة تقدمية تمثلت في انتخاب سياسي أسود للرئاسة وبأصوات بيضاء خصوصاً من الشباب، ثم أمس بعث هذا الناخب "نفسه" برسالة رجعية من أميركا البيضاء، لا شك بذلك، هي أميركا التي تريد الانكفاء على نفسها وتكره السود والمسلمين ولا تهتم بالمرأة ورافضة للمزيد من مشاريع توسيع الرعاية الطبية لملايين الأميركيين.
حتى لو لم تكن أميركا العميقة هي التي قالت كلمتها أمس، لأن المنافسة كانت "على المنخار"، فإن أميركا الغاضبة ساهمت قطعاً في هذا الانتصار.
أميركا الغاضبة من تناوب "استابلشمنت واشنطن" على السلطة. أميركا القلقة ديموغرافياً. أميركا العاطلة عن العمل (مع أن أرقام البطالة تظل أفضل بكثير من أرقام دول غربية أخرى ومعدل خلق الوظائف قوي). كل ذلك في مكان ما تبيّن أنه حقيقي وفعال لأنه منذ زمن طويل لم يحلم مرشح ديموقراطي بمنافس جمهوري كاد معظم قادة حزبه يتخلون عنه.
في هذه المناسبة المذهلة والخطيرة لا بأس قبل الانتقال إلى المستقبل من السؤال عن فئة في النخبة الأميركية تكره آل كلينتون إلى هذا الحد باعتباره الزوج والزوجة ظاهرة نافذة في السياسة والسلطة الأميركيتين. من هم هؤلاء الكارهون، ليس فقط بين الجمهوريين بل بين الديموقراطيين أيضاً وما مدى دورهم في إسقاط المرشحة كلينتون حتى عبر التأثير بنسبة محدودة من الأصوات ولكنها كانت شديدة الأهمية تبعاً للمنافسة العددية الشديدة؟ ثم السؤال الأهم هو ما حجم شباب الطبقة الوسطى في المدن الذين كانوا مؤيدين لأوباما عامَي 2007 و2011 وبدا خلال الحملة الانتخابية أن لهيلاري كلينتون مشكلة كبيرة معهم ولا ينظرون إليها بثقة.
لن يعيد دونالد ترامب عظمة أميركا كما كرر في خطابه الأول بعد الفوز لأن أميركا هي سابقاً والآن دولة عظيمة معه ومن دونه. الشعار إذن فارغ أصلاً. ما يبقى مهماً هو التأثيرات الجادة التي هي أقرب إلى التهديد من برنامجه الاقتصادي الانعزالي، خصوصاً حيال التوسع الشرق آسيوي وسياساته العسكرية والهِجرَويِة. هل سيكون التهديد صالحاً للتنفيذ؟
ليس صعباً توقع أن تُعَقْلِن المسؤوليةُ في الرئاسة الكثير من عنترياته أو "ترامبيّاته" السابقة. لكن الأمر المهم الذي ينبغي مراقبته هو هل سيكون عهده مشحونا بالتوتر الداخلي في المجتمع الأميركي؟ العنصري، الديني، وحتى على المستوى الطبقي، فلن تكون المرة الأولى في العالم وفي الغرب التي يصل فيها سياسي شعبوي رأسمالي ويميني باسم خطاب يحظى بتأييد الفقراء؟... ويحظى أيضا بأوهامهم.
أما السياسة الخارجية فهذا بحث آخر وخصوصاً في الشرق الأوسط.
*نقلا عن جريدة النهار
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة