مجريات الأحداث السورية أثبتت أن موسكو التي وضعت يدها بمهارة على نوازع ودوافع أردوغان تستثمر تقلباته وجموح خياله
لم يكن مفاجئا هجوم القوات النظامية السورية على إدلب، ولم يكن مستغرباً تهاوي دفاعات مسلحي هيئة تحرير الشام أمامه، كذلك كان متوقعاً توفير روسيا للغطاء الجوي الكثيف والعنيف لتقدم القوات النظامية السورية، إلا أن ما يستوقف المتابع لمجريات المعارك وسرعة سيطرة وحدات الجيش السوري على عشرات القرى والبلدات والمدن في إدلب هو حقيقة الدور التركي في مجمل المشهد الجديد؛ هل وصل التواطؤ بأردوغان درجة تلامس حدود الفضيحة بعد ممارسة الخداع مع مرتزقته من مسلحي هيئة تحرير الشام والحزب التركستاني ومجموعات المسلحين من الإيغور الذين غرر بهم على مدى سنوات ووعدهم بأنه سيحميهم وينشئ لهم إمارة إسلامية في إدلب تحت عباءته العثمانية الجديدة؟ الفضيحة، بل السقوط الأخلاقي الأكبر تجلى في إدارة ظهره لبضعة ملايين من أهالي إدلب المدنيين ومن اللاجئين إلى المدينة من مختلف مناطق سوريا حين منعهم من اجتياز حدود بلاده هرباً من المعارك التي حصدت أرواح الآلاف منهم.
الأسئلة تتداعى وهي كثيرة لكن أغلبها بات مكرراً نظراً للسقطات الأخلاقية المتتالية التي وسمت نهج وسلوك أردوغان في الملف السوري، ومن المنطقي القول إن هذا النهج والسلوك الغادر ينسحب على جميع مواقفه في مختلف القضايا التي بحث ويبحث فيها عن دور له ولمشروعه التوسعي، لكن ما بعد المشهد الحالي في إدلب ينبئ بوجود تحديات برزت وستبرز أمامه من صنع يده، بعضها ضاغط عليه وعلى سياسته وتوجهاته برمتها في المدى المنظور داخلياً وخارجياً، علاوة على علاقاته مستقبلاً؛ سواء مع موسكو، أو مع المسلحين الأجانب من الحزب التركستاني ومن الإيغور الذين يعدون بالآلاف وموجودين في بعض مناطق إدلب يقاتلون إلى جانب هيئة تحرير الشام، إضافة إلى المسلحين السوريين المنضوين تحت عباءته، وهؤلاء وجدوا أنفسهم في مزاد النخاسة الأردوغاني؛ فإما الموت قتلاً في ساحات القتال أو الانصياع لنزوات ورغبات سيدهم العثماني الجديد بالتوجه مع المدنيين الفارين من جحيم المعارك إلى المناطق التي احتلها في الشمال السوري لاستكمال مخططه الرامي إلى إحداث عملية تطهير عرقي وتغيير ديموغرافي يتناسب مع أهدافه العدوانية والتوسعية في الشمال السوري .
مجريات الأحداث السورية أثبتت أن موسكو التي وضعت يدها بمهارة على نوازع ودوافع أردوغان تستثمر تقلباته وجموح خياله لتحقيق مصالحها الحيوية والاستراتيجية في سوريا وغيرها من المناطق الأخرى.
موقف أردوغان المتفرج لا ينمّ عن العجز ولا عن حالة وهن وضعف اجتاحت كيانه فجأة لكنها لغة المصالح والمقايضات الكبرى التي يمتهنها، وجميعها كان دم السوريين وقودها من مختلف الشرائح والمناطق، وقد جاء أوانها فاستغلها دون أي وازع أو رادع أخلاقي حيال المدنيين منهم تحديداً، علاوة عن المسلحين، فهو يسعى كما يبدو للاستفادة من بقايا المسلحين في رسم خطوط مواجهة جديدة مع المسلحين الأكراد من قوات قسد على طول المواقع التي احتلها في الشمال السوري، وبذلك يؤسس ويسعى لإدامة زمن الصراع السوري الداخلي تحقيقاً لغاياته دون أن يأخذ بعين الاعتبار تبعات استمرار الصراع في بلد جار مستقبلاً على تركيا سياسياً وأمنياً واقتصادياً، إذ تصل حدوده المشتركة مع بلاده إلى حوالي تسعمئة كيلومتر، خاصة وأنه يواجه تحديات داخلية كبيرة قابلة للتفاقم داخل حزبه الحاكم ومع أحزاب المعارضة ومع الأحزاب التي هي قيد التشكل بعد أن تبرأت من نهجه وسياسته واتخذت موقعا معارضا له.
فرض واقع جديد أمام حلفائه الروس وبقية اللاعبين الإقليميين والدوليين المنخرطين في الأزمة السورية كورقة ضغط وابتزاز على طاولة التفاوض أحد أهدافه، وبذلك يعتقد أردوغان أنه يتجنب المواجهة مع روسيا في ساحات إدلب أو حتى في سياقات ومسارات تفاهم آستانا واتفاقات سوتشي لإرضاء الروس، كما يتوهم أن سياسة الابتزاز للأوروبيين بورقة اللاجئين يمكن أن تبقى بيده يلوح بها متى شاء دون الالتفات إلى أن الأوروبيين لن يقبلوا بالرضوخ لهذا الابتزاز إلى ما لا نهاية بل إن هذا السلوك دفع عواصم الغرب إلى وحدة الموقف ومواجهته مع وجود مزاج أوروبي عام يرفض الكثير من سلوك وسياسة أردوغان.
مجريات الأحداث السورية أثبتت أن موسكو التي وضعت يدها بمهارة على نوازع ودوافع أردوغان تستثمر تقلباته وجموح خياله لتحقيق مصالحها الحيوية والاستراتيجية في سوريا وغيرها من المناطق الأخرى وهي بذلك تنزع عنه الأقنعة التي ارتداها على مدار سنين الأزمة السورية قناعاً تلو الآخر.
تبرز أيضا ورقة المسلحين الأجانب الذين احتضنهم هناك من التركستان والإيغور وغيرهم على السطح بطريقة أكثر إلحاحا على أردوغان، فأولئك الأغراب الموجودون في بعض مناطق إدلب باتوا في مواجهة خيارات محدودة لا تخرج عن نطاق ما يرمي إليه في حصرهم في مناطق الشمال السوري التي احتلها لأنه لا يستطيع احتواءهم أو إيواءهم على الأراضي التركية، ولم يعد بمقدوره إعادتهم إلى بلادهم في الصين أو آسيا الوسطى أو حتى في الشيشان بعد أن افتضح أمر علاقته وتبنيه لهم على مدى السنين الماضية من عمر الأزمة السورية، وليس بعيدا أن يستغل واقعهم المرير ويزجهم في مغامرته على الأراضي الليبية بعد أن يقلص خياراتهم أو يعدمها كما فعل مع بعض المسلحين السوريين حين ارتضى بعضهم أن يكون قاتلاً مرتزقاً لخدمة مشاريعه العدوانية التوسعية في بلاد أخرى.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة