لابد من التوقف عند أبعاد هذه العملية التي اشتركت فيها ستة أجهزة استخبارية نشطة في الأراضي السورية
ساعات طويلة من التحليل وملايين الكلمات على الشبكة العنكبوتية التي ترصد أفعال داعش لسنوات وصولا لتناول خبر مقتل رأس التنظيم الشيطاني.. إبراهيم السامرائي الذي عرف بـ"أبوبكر البغدادي".
ولا يحتاج أحد لتذكر فظائع هذا الرجل المريض الجبان الذي جمع حوله كل مختل وكل من في قلبه حقد على الإنسانية وضحى بهم واحدا تلو الآخر ليحمي نفسه حتى لقي حتفه في جحر في الشمال الغربي من سوريا العزيزة التي تتغلب على جراحها وآلامها يوما بعد آخر.
لهذا يكون السؤال: ماذا بعد مقتل زعيم التنظيم؟ وكيف ستتعامل تركيا مع الأكراد الذين يصنفهم أردوغان إرهابيين وهم من اشتركوا في القضاء على رأس الإرهاب.. وما زالوا يحتجزون آلاف الدواعش في سجونهم؟
لكن لابد من التوقف عند أبعاد هذه العملية التي اشتركت فيها ستة أجهزة استخبارية نشطة في الأراضي السورية، ولعل معظم التساؤلات تتركز حول جغرافيا الموقع الذي كان يختبئ فيه البغدادي.. الذي كان يختبئ بصفة الضيف في حمى مناطق نفوذ أردوغان في إدلب المكلومة التي تخضع عسكريا لسلطة مليشيات توالي أردوغان أولا والقاعدة ثانيا، وتحظى بالغطاء السياسي والإمداد العسكري المباشر للرئيس التركي.. وهو الذي يتشدق بأنه يقاتل داعش وأنه تضرر منها وأنه وأنه.. وما احتماء البغدادي بالجولاني وغيرهما بمناطق نفوذ أردوغان وحلفائه طوال هذه المدة إلا أفضل دليل على رعاية نظام أردوغان لداعش وأخواته لإعادة ترتيب أوراق تلك التنظيمات وتوطينها في الشمال السوري على الرغم من عدم اتفاق تلك المليشيات فيما بينها وتنافسها على السيطرة والنفوذ.. لكن الرعاية الأردوغانية هدفها توظيف هذه المليشيات الإرهابية في كل الاتجاهات الجغرافية والسياسية.. وتجربة أردوغان مع اللاجئين واضحة وضوح الشمس وتحكي كيف استغلهم كورقة رابحة في ابتزاز أوروبا ماديا ليحصل على حفنة من الدولارات قبل أن يستغلهم ويستهلكهم في وظائف مؤقتة متدنية ثم يقوم بترحيل من لم يرفع عنه تقريرا أو تزكية مفادها أنه عنصر مفيد ويعتنق عقيدة الإخوان المتأسلمين.
العملية قادتها وكالة الاستخبارات المركزية سي آي إيه بالتعاون مع أجهزة استخبارات كل من الإدارة الذاتية في شمال سوريا والعراق وروسيا وتركيا في تحديد موقع البغدادي، أي أن معلومات وتقارير أرضية تم تبادلها وتحليلها وتأكيدها قبل التنفيذ النهائي، ولعل الدور الأكبر كان لاستخبارات قوات سوريا الديمقراطية التي يقودها الجنرال مظلوم عبدي والتي شاركت في عملية الإنزال الجوي ومهاجمة المخبأ الذي كان يؤوي البغدادي.. وفي ذلك رد على ادعاءات أردوغان التي كان يحاول أن يبعد بها التهمة عنه.. صحيح أنه لم يكن على علم بهدف العملية وتفاصيل تنفيذها لكنه على علم بكل شيء آخر.
ولعل أبرز ما يتساءل كثيرون بشأنه هو مسألة توقيت العملية وكيف ستتفاعل في أروقة السياسة الأمريكية.. وكيف سيوظفها ترامب وهو المقبل على انتخابات ستكون عاصفة وتهدد استمراره وإدارته في قيادة البلاد.
صحيح أن نتيجة العملية ستذهب لصالح ترامب وإدارته في نهاية المطاف حيث تعهد بالقضاء على داعش إبان حملته الانتخابية، وها هو يفي بما تعهد به، لكن الأمر سيفتح النار عليه كذلك داخليا حيث لم يطلع الكونجرس على تفاصيل العملية، فضلا عن أنه كان يعتزم سحب قوات بلاده من سوريا كليا بعد أن أعلن انسحابه الغامض من مناطق "حلفائه" الأكراد إبان الاجتياح التركي الغاشم لها.. ولولا الضغط واللوم اللذان واجههما من مقربين من حزبه في الكونجرس لكان قد ندم أشد الندم ولما تمكن من ترقيع خطأ بحجم عملية سحب قوات بلاده من سوريا في هذا التوقيت.
ولو حاولنا فهم الغموض الذي تميزت به إدارة ترامب فيما يخص غضها للطرف عن تجاوزات أردوغان السياسية والإنسانية في مناطق "قسد" فسيقودنا التحليل لما يبدد ذلك الغموض.. فالعملية حدثت بعد أسبوعين من الاجتياح التركي لمناطق الأكراد وبعد ثلاثة أيام من رسالة التوبيخ التي أرسلها ترامب لأردوغان، ثم تصريحاته بشأن تركيا وأنه طلب رفع العقوبات عنها.. بعد الاستجابة لضغوط وعقوبات من إدارته كانت بينة للجميع لكنها لم تستمر لأكثر من أسبوع.. ما يفتح باب الصفقات المحتملة واسعا لإنجاز ما يخدم الطرفين، فأردوغان يحتاج لما يبعد عنه غضب الشارع عليه وعلى حزبه والوضع الاقتصادي الداخلي الذي تسبب فيه بتصرفاته الرعناء.. ويحتاج لإصلاح ما أفسده بأن يعيد تطبيع علاقات تركيا الاقتصادية مع الولايات المتحدة.
كما أنه بحاجة ماسة لتهدئة غضبة المجتمع الدولي بسبب ما فعله في مناطق أكراد سوريا.. ومن قبل ذلك ما فعله بابتزاز الأوروبيين بورقة اللاجئين.. إضافة للاتهامات التي تطال نظامه بالضلوع في علاقات مباشرة بملف الإرهاب في سوريا والتعامل مع داعش أضر كثيرا بعلاقاته مع حلفائه في الناتو وهدد رسميا عضوية تركيا التي كانت مميزة في الحلف، ولذلك فهو بحاجة لتنشيط وتعزيز العضوية المهددة في الناتو.
وفي المقابل، ترامب يحتاج لـ"شيء ضخم" يساعده في الانتخابات المقبلة.. وبإمكان تركيا تقديمه على طبق من ذهب.. وقد فعلت بتقديمها لمعلومات من منطقة نفوذها.. مستغلة علاقاتها بالجولاني وغيره في إدلب، وبالمناسبة فإن إحدى أكبر قواعد الناتو -إنجرليك- توجد في الجنوب التركي غير بعيدة عن الحدود مع سوريا.
وبقراءة سريعة لما رشح من معلومات وتقارير صحفية عن العملية فقد نفذت في حي يبعد بضع كيلومترات عن الحدود التركية ما يعني أن وصول قوة جوية وأرضية عبر أجواء تركيا أمر محتمل وأقل لفتا للأنظار من أن تصل القوة من شمال العراق أو من شرق سوريا.. لكن المعلومات التي نشرها المرصد السوري تفيد بأن الطائرات انطلقت من قاعدة في كوباني ومرت فوق مناطق عمليات سورية-روسية، وهنا حان وقت التنسيق الذي تحافظ عليه القوات الأمريكية مع الروسية في سوريا.
وبحسب آخر المعلومات، فإن مراقبة دقيقة لمرافق البغدادي وعديله قادت لكشف موقعه، وأن استخبارات قوات سوريا الديمقراطية التي تتحفظ على ما يربو على اثني عشر ألفا من عناصر داعش في سجونها يمكن استخلاص بعض المعلومات من بعضهم أيضا.
الأمر الوحيد الذي يشكل تهديدا لمدى صحة المعلومة أن تكتفي الجهات التي أعلنت مقتل البغدادي وعلى رأسها البيت الأبيض وترامب شخصيا بما تم الإعلان عنه حتى الآن.. على غرار نموذج إعلان مقتل زعيم القاعدة أسامة بن لادن في عملية أمريكية، وحينها لم يكن مقنعا لكثيرين ما حاول تسويقه أوباما لتأكيد الأمر إلا تلك اللقطات التي قيل إنها لبن لادن في مخبئه في باكستان.
أضعف الاحتمالات التي سينتظرها العالم لقطع الشك باليقين هو تأكيد خبر مقتل شيخ الدواعش عبر نشر صورة له مقتولا، والأهم تأكيد تطابق الحمض النووي للجثة، وتحديد ذلك ليس بالأمر الصعب، ولذلك انتظر ترامب 10 ساعات حتى يعلن الخبر بعد أن تم فحص الحمض النووي والتأكد من ذلك -دون نشر صورة- فقد كان البغدادي أحد نزلاء سجن معسكر بوكا في العراق وجميع معلومات نزلائه حتما ستكون لدى إدارة السجن الأمريكية.. هذا السجن الذي يقول مديره إن البغدادي قال لهم وهو يغادر: "أراكم في نيويورك..".
الحرب على الإرهاب لن تتوقف بمقتل البغدادي الذي ظهر قبل خمسة أعوام.. والأكيد أن خبر مقتله سيتم تداوله على أنه إنجاز كبير خاصة أن عملية قتل البغدادي تشبه في ظروفها الزمانية عملية قتل بن لادن التي سبقت انتخابات العهدة الرئاسية الثانية حينها، وتم تسويق الأمر على أنه إنجاز للديمقراطيين ولأوباما شخصيا، كذلك هو الحال مع ترامب اليوم.
هو إنجاز لا شك في ذلك لكنه ليس كل شيء.. فأتباعه ومن يوالونه ما زالوا يتحركون في عدد من بلداننا علنا.. ولهذا يكون السؤال: ماذا بعد مقتل زعيم التنظيم؟ وكيف ستتعامل تركيا مع الأكراد الذين يصنفهم أردوغان إرهابيين وهم من اشتركوا في القضاء على رأس الإرهاب.. وما زالوا يحتجزون آلاف الدواعش في سجونهم؟
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة