تهديد بالإبادة.. لماذا يخشى أردوغان صعود رئيس بلدية إسطنبول؟
في تركيا شذوذ سياسي لحزب العدالة والتنمية وقادته مقابل اندهاش اجتماعي متصاعد من سوء إدارة هذا الحزب الذي زاد من حدة التوتر السياسي
في تركيا شذوذ سياسي لحزب العدالة والتنمية وقادته مقابل اندهاش اجتماعي متصاعد من سوء إدارة هذا الحزب الذي زاد من حدة التوتر السياسي مع خصومه السياسيين، وكرس الانقسامات المجتمعية.
ظهر ذلك جليا في السعي لإفشال ومحاولة استبعاد رئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو الذي لم تتوقع قطاعات سياسية في المعارضة أو الحكم أن الشاب ذا الأربعين عاماً يفوز برئاسة بلدية إسطنبول متفوقاً على مرشح أردوغان رئيس الوزراء السابق بن علي يلدريم.
استهداف مستمر
تصاعدت مخاوف العدالة والتنمية من أكرم أمام أوغلو بفعل تزايد شعبيته، وتحول إلى حصان المعارضة الرئيسي في وجه أردوغان خاصة بعد تمكنه في جولة الإعادة من إلحاق هزيمة مدوية بمرشح الحزب رئيس الوزراء الأسبق بن علي يلدريم.
والأرجح أن ثمة مبررات عدة تغذي مخاوف الرئيس التركي لاستهداف إمام أوغلو تمهيداً لعزلة من رئاسة إسطنبول، ويمكن بيانها على النحو الآتي:
إنهاء السيطرة على إسطنبول
كان فوز حزب الشعب الجمهوري في إسطنبول أكبر ضربة لمكانة أردوغان، حيث أنهى هيمنة استمرت 25 عاماً على أكبر وأغنى مدينة في تركيا، وتمثل قواعدها الانتخابية مخزوناً وافراً لحزب العدالة والتنمية.
لكن إمام أوغلو نجح في جذب كتل محافظة لمصلحته في الجولة الثانية بعد رفضها قرار إعادة الجولة الأولى، ويبدو أن جزءاً من القواعد المحافظة في إسطنبول تململت من التوجهات السلطوية لأردوغان وخطاب تقليدي للحزب.
منافسة أردوغان في 2023
يبدو أنّ أكرم إمام أوغلو يؤهل نفسه لخوض الانتخابات الرئاسية المقبلة؛ ففي لقاء له بعد فوزه بالانتخابات، قال أوغلو: "اليوم فزنا بإسطنبول وعام 2023 سنفوز بالرئاسة".
ونالت تلك التصريحات ترحيباً كبيراً لدى قطاعات شعبية تناهض التوجهات السلطوية للرئيس أردوغان، وتعد النظام الرئاسي المعمول به منذ تمرير التعديلات الدستورية التي حولت البلاد لجهة النظام الرئاسي في أبريل/نيسان 2017 تكريساً للسلطوية وحكم الفرد.
الواقع أن وصول إمام أوغلو لرئاسة بلدية إسطنبول يعني في جوهره حضور شخصية شبابية وذات تجربة وشعبية واسعة، يستطيع أن يكون منافساً مستقبلياً لأردوغان.
ومع منجزات ملموسة في إسطنبول بعد وقت قصير من تولي إدارتها، فإن إمام أوغلو سيستعيد السيرة السياسية لأردوغان نفسه، الذي كان بدوره رئيساً لبلدية إسطنبول، حتى استطاع أن يحول نجاحاته إلى زعامة سياسية، وتأسيس حزب العدالة والتنمية عام 2001، بعد انشقاق عن حزب الرفاه الإسلامي.
في المقابل، فإن إمام أوغلو يتمتع بميزات خاصة، حيث يمتلك ناصية الخطاب، ولديه قدرة على الإقناع فضلاً عن أنه يجمع بين المدنية السياسية والمحافظة الاجتماعية والمنجز الاقتصادي والإداري، وفوق ذلك قدرته على خلق مساحة مشتركة بين مختلف التوجهات السياسية والاجتماعية التركية.
وبدا ذلك في إعلان أحزاب معارضة انسحاب مرشحيها في جولة إسطنبول الثانية، وتقديمها دعماً مطلقاً لإمام أوغلو، ناهيك عن التوافق السياسي بين حزب الشعب الجمهوري وحزب الشعوب الديمقراطي الكردي ومعهما حزب الخير القومي وحزب السعادة الإسلامي، وهو ما قد يشكل جبهة سياسية موازية لتحالف حزب العدالة والتنمية مع حزب الحركة القومية المتطرف.
قطع روافد الحزب المالية
تعد إسطنبول المركز الاقتصادي الأهم في تركيا، فهي توفر فرص عمل لـ20 من الأيدي العاملة، وتسهم بـ22% من الناتج القومي، ويؤخذ منها 40% من مجموع الضرائب بالدولة، وتنتج 55% من الصادرات.
وتسيطر بلدية العاصمة الاقتصادية والديموغرافية للبلاد على موارد مالية مهمة يُعاد توزيعها لدعم حزب العدالة والتنمية. وبالتالي، فإن خسارة إسطنبول ستؤدي إلى خسارة كبرى في حجم الأموال الموزّعة على شبكات حزب العدالة والتنمية ما قد يضعف ماكينته.
لذا، فإن خطف المعارضة بلدية إسطنبول يثير قلق الحزب الحاكم، بالنظر إلى ضخامة مواردها المالية فضلاً عن تمويلها الأوقاف والمؤسسات المقربة من الحكومة.
فخلال عام 2019 وصلت 23.8 مليار ليرة (4.23 مليار دولار) إلى بلدية إسطنبول، بزيادة قدرها 18.41% مقارنة بميزانية العام الماضي، لذلك تعد هذه البلدية شركة قابضة كبرى.
وتضاعفت مخاوف العدالة والتنمية، بعد قرارات أكرم إمام أوغلو بالحد من وجود حزب العدالة والتنمية الحاكم في إسطنبول، فطرد ما يقرب من 1200 موظف تم تعيينهم قبل توليه منصبه وإلغاء تمويل بقيمة تزيد على 60 مليون دولار لمؤسسات مرتبطة بحزب العدالة والتنمية.
كما ألغى أكرم إمام أوغلو في أغسطس/آب الماضي صفقات إعلانية مربحة منحتها البلدية بالأمر المباشر لشركات تابعة للحزب الحاكم إضافة إلى فسخ عقود مع 6 مؤسسات ذات صلة بحزب العدالة والتنمية الحاكم في خضم تحقيق يتصل بإنفاق البلدية.
إثارة فضائح الفساد
يخشى العدالة والتنمية من كشف ملفات الصفقات المالية والإدارية في بلدية إسطنبول طوال السنوات الماضية، حينما وُجه الكثير من تهم الفساد إلى أعضاء من هذا الحزب في هذه البلدية، بما في ذلك أردوغان وأفراد عائلته نفسه.
وكشفت تقارير اقتصادية أن الحزب الحاكم في تركيا حوّل في الفترة بين 2006 و2018 نحو 6 مليارات ليرة (مليار دولار)، من أموال بلدية إسطنبول لأوقاف مقربة منه، وعلى رأسها وقف الشباب للخدمات التعليمية و"الأنصار" و"رماة الأسهم" و"شباب تركيا".
وفي هذا الصدد، تجدر الإشارة إلى أن أكرم إمام أوغلو بعد فوزه في المرة الأولى قبل أن تلغي اللجنة العليا للانتخابات تلك النتائج وتقرر إعادة إجرائها، كان القرار الأول له هو طباعة الأرشيف المالي للبلدية طوال السنوات الماضية، وتقديمه إلى جهة تدقيق مستقلة، لكشف ملفات الفساد الكبرى التي جرت في البلدية طوال السنوات الماضية.
لذا سعى الرئيس التركي رجب أردوغان لتقويضه بإجراءات مختلفة هذه المرة، فقد قام بتقليص صلاحياته ومنحها لمجلس البلدية التي يسيطر عليها حزبه الحاكم؛ في محاولة لمنعه من كشف ملفات الفساد السابقة، وأصدرت وزارة التجارة في 30 يونيو/حزيران الماضي قراراً يقضي بسحب صلاحية تعيين مديري الشركات المرتبطة ببلدية إسطنبول من رئيسها.
استنزاف الحزب الحاكم
كشف صعود أكرم إمام أوغلو تراجع موقع العدالة والتنمية في الشارع التركي، إذا استنزفت معركة الإعادة في 23 يونيو/حزيران الماضي عبر وسائل الإعلام أو في الشارع جانباً من مصداقية الحزب الحاكم وأردوغان، بل وضعت الحزب تحت ضغط رموز المعارضة الجدد خاصة إمام أوغلو.
والمتابع للتطورات السياسية وللحركة الميدانية في مدينة إسطنبول، يدرك منذ فترة أن هناك شيئاً يتحرك ويكبر منذ تولي أكرم إمام أوغلو رئاسة بلدية إسطنبول في يونيو/حزيران الماضي ليفرض نفسه على الساحة السياسية التركية، لتتصاعد فرصته لمنافسة الرئيس التركي في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2023، خاصة أن فوزه بإسطنبول منحه هالة وطنية من شأنها أنّ تهدد وضع أردوغان على الأمد البعيد.
أكرم إمام أوغلو يبن التشويه والتهديد
يستمر حزب العدالة والتنمية الحاكم في محاولاته لإقصاء أكرم أوغلو عن بلدية إسطنبول عبر تهديدات مباشرة وتشويه متعمد، وظهر ذلك في تهديد وزير الداخلية رئيس بلدية إسطنبول بالتدمير ووصفه بالجاهل، وأن عليه أن يعرف مكانه وحدوده، على خلفية انتقاد أكرم أمام أوغلو إقالة ثلاثة رؤساء بلديات أكراد في أغسطس/آب الماضي، وتعيين أوصياء حكوميين ينتمون للعدالة والتنمية، بسبب مزاعم عن صلاتهم بالإرهاب.
ووصف أكرم أوغلو خطوة الداخلية التركية بأنها "غير قانونية وتتعارض مع الديمقراطية."
ومنذ صعود أكرم أمام أوغلو لرئاسة بلدية إسطنبول واختراقه ملفات فساد قد تنال من العدالة والتنمية إضافة إلى إحداث نقلة نوعية على صعيد الخدمات، يسعى الرئيس أردوغان لوضع العراقيل أمام أوغلو الذي يظهر على عكس قادة العدالة والتنمية أكثر حيوية وحضوراً ومُمسكاً بالملفات التي سيعمل عليها في بلدية إسطنبول الكبرى.
على صعيد متصل، وظف الرئيس أردوغان لقاء إمام أوغلو ورؤساء البلديات الكردية المفصولين في ديار بكر وماردين وفان، لاتهامه علناً بإقامة صلات مع عناصر الإرهاب في ديار بكر.
وفي تصريحات له قال أردوغان "أولئك الذين لا يستطيعون اتخاذ موقف ضد الإرهاب لا يمكن أن يشغلوا منصب رئيس بلدية أو يعملوا بالسياسة". كما انتقد أردوغان إمام أوغلو بسبب السيول التي جرت في إسطنبول قبل أسابيع في حين كان رئيس البلدية في عطلة.
ولم تكن هذه الاتهامات، أو محاولة التشويه هي الأولى من نوعها، فقد حاولت الحكومة في وقت سابق تلويث سمعة إمام أوغلو بكل السبل المتاحة، وصفوه باليوناني والإرهابي وأنه من أنصار الانقلاب وأن أمريكا زرعته حتى إنهم وصفوه بأنه تابع لـ"النظام المصري"؛ لكن كل هذا لم يفلح.
وتكشف هذه الانتقادات والسعي للنيل من إمام أوغلو أن أردوغان ربما يستعد للإطاحة برؤساء بلديات ينتمون إلى حزب الشعب الجمهوري المعارض الرئيسي خاصة إمام أوغلو، بعدما تحول إلى شوكة في خاصرة الحزب الحاكم، وبات يمثل تحدياً وصداعاً مزمناً في رأس الرئيس أردوغان.
ختاماً يمكن القول: "إن نجاح أكرم إمام أوغلو في بناء خطاب سياسي جامع وليس مفرقاً، يثير قلق أردوغان الذي يسعى بقوة إلى عزل أكرم إمام أوغلو خاصة بعدما تمكن الثاني، وخلافاً للعدالة والتنمية من خلق أرضية مشتركة مع مختلف القوى السياسية، وبدا ذلك في إعلان التأييد لحزب علي بابا جان المرتقب، وتأكيده أن تركيا بحاجة إلى خطاب سياسي جديد يستعيد أمجاد الدولة التركية التي قاربت على عامها المئة".
aXA6IDE4LjExNy4xNzIuMTg5IA== جزيرة ام اند امز