أوروبا التي تزمع فرض عقوبات إضافية على تركيا في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، لا تجهل طبيعة القانون الدولي.
ما من تصريح يطلقه المسؤولون الأتراك بشأن النزاع حول الحقوق في المياه الإقليمية بين تركيا واليونان وقبرص، إلا ويقولون إن موقفهم ينبع من القانون الدولي. ولكن اذهب لتبحث، ولن تعثر على أي قانون يسمح لتركيا بما ترتكبه في شرق المتوسط أو بحر إيجة. ولا يفعل المسؤولون الأتراك، في هذا، سوى أنهم يضيفون الأكاذيب، إلى حمى التسلط والعدوان التي تنتاب رئيسهم.
قانون البحار الذي صودق عليه في العام 1982 وأصبح نافذا في العام 1994، يجيز لكل دولة أن تمد سيادتها إلى 12 ميلا بحريا. كما أنه يجيز لكل دولة أن توسع حقوقها الاقتصادية إلى 250 ميل بحري من جرفها القاري.
أنظر إلى خارطة بحر إيجة الذي يفصل بين اليونان وتركيا وسترى أنه كان بالوسع أن يكون بحرا يونانيا، بالنظر إلى أن جزر اليونان هي التي تمثل جداره الشرقي على مقربة من الحدود التركية. إلا أن اليونان لم تذهب إلى هذا الحد. ولكنها أعلنت عن توسيع نطاق سيادتها في هذا البحر بالذات إلى 12 ميلا بحريا. وهو حق بسيط ويكاد يكون من حقوق الحد الأدنى. كما أنه يمكن لتركيا أن تكتسب الحق نفسه، فيكون الأمر مُنصفا ولا يستدعي أي نزاع.
ولكن تركيا تتعامل مع بحر إيجة على أنه بحر تركي خالص، بصرف النظر عن الحقوق التي يقرها القانون الدولي لجزر اليونان "كأي جرز أخرى"، وبصرف النظر عن حقيقة أن اليونان هي طرف البحر الآخر.
أكثر من ذلك، فإن حكومة أردوغان لا تتردد في اعتبار أن قيام اليونان بتوسيع سيادتها، في إطار القانون الدولي، "سببا للحرب". ويقول المسؤولون الأتراك إن برلمانهم أقر شيئا آخر، في العام 1992، وكأن هذا البرلمان هو الذي يسن القوانين الدولية.
مزاعم تركيا، بأنها تمارس حقا يقره لها القانون الدولي، تثير السخرية والاستهجان ليس في أوروبا وحدها وإنما في العالم كله، لأنه لا وجود إلا لقانون واحد. أما تركيا فتتبع قانونا وهميا لا وجود له إلا في المخيلات المريضة لأردوغان وأتباعه.
أوروبا التي تزمع فرض عقوبات إضافية على تركيا في الأسبوع الأخير من هذا الشهر، لا تجهل طبيعة القانون الدولي. ولا تريد أن تخوض في جدال فارغ مع أردوغان بشأنه، لأنه واضح بما فيه الكفاية.
أردوغان يلوح بالحرب، ليس لأنه قادر عليها، وليس لأنه يمتلك أي حقوق فعلية، وليس لأنه يمتثل فيها إلى القانون الدولي، بل لأنه يريد أن يفرض أمرا واقعا بلغة القوة والتهديد. وذلك في نوع من البلطجة ضد بلد يحسبه ضعيفا من الناحية العسكرية.
البلطجة، لا تمنح أحدا الحق في أن يسن القوانين للآخرين، كما أنها لا تمنح أردوغان الحق في أن يفرض إرادته لمجرد أنه يتجرأ على المضي قدما في السير على حافة الهاوية.
تركيا سوف تنتحر لو أنها أطلقت رصاصة واحدة ضد اليونان. وأردوغان يعرف ذلك. لا اقتصادها يتحمل تكاليف الحرب، ولا إمكانياتها العسكرية قادرة على مواجهة اليونان وحلفائها الأوروبيين.
ولكنه يواصل التصعيد، على سبيل الابتزاز، لتحسين موقفه في المفاوضات المحتملة مع اليونان.
في تلك الساعة، سوف تضع اليونان القانون الدولي على بساط الحقيقة، ليكتشف أردوغان أن كل مزاعمه لا قيمة لها في الواقع، وأنه يمارس عدوانا صريحا على حقوق الآخرين.
اليونانيون، بل الأتراك أنفسهم، يعرفون أن أردوغان ينطلق في ذلك التصعيد، من اعتبارات تاريخية تتعلق بمحاولة رد الاعتبار لهزائم الإمبراطورية العثمانية.
فالرجل يبدو وكأنه يعيش في ذلك الزمن الغابر وليس في عالم اليوم. ويريد أن يثأر لإمبراطورية سقطت.
"معاهدة سيفر" التي وقعتها السلطنة العثمانية في 10 أغسطس 1920، وعاد أردوغان لينتقدها، بعد 100 عام، وضعت أسسا لم يعد بوسع العثمانيين الجدد أن يغيروها.
هذه المعاهدة، أقرت سيادة اليونان على معظم الجزر الواقعة في بحر إيجة، وذلك مثلما أخرجت العراق وسوريا من سيطرة السلطنة العثمانية واعترفت باستقلال شبه الجزيرة العربية، كما اعترفت باستقلال أرمينيا، واعتبرت مضائق البسفور والدردنيل مياهً دولية منزوعة السلاح.
هذا وضع أصبح جزءا من واقع دولي جديد. ولم يعد بالإمكان ممارسة البلطجة فيه، ولا التهديد بالحرب لتغييره.
فقط الحمقى، هم الذين يتوهمون أنهم قادرون على فعل كل شيء، ولكن ليس لأنهم يمتلكون قوة عسكرية أو اقتصادية كافية، بل لمجرد أنهم حمقى.
أوروبا لا تريد الحرب، لأنها تريد أن توفر التكاليف، لا أكثر. كما أنها لا تريد أن تجد نفسها في علاقة دامية مع جار، أو أن يتحمل الشعب التركي التبعات الناجمة عن حماقات رئيسه.
ولكن، لو حدث وتجرأ بأن أطلق الرصاصة الأولى، فإن غضب الدنيا كله سوف ينصب على رأسه.
أمراض أردوغان كثيرة، على أي حال. وشعبه يعرفها، من التسلط، إلى الابتزاز، إلى النفاق، إلى الكذب، وكلها قابلة للعلاج. إلا الحماقة.
يقول أبو الطيب المتنبي:
لكل داءٍ دواءٌ يُستطب به - إلا الحماقة أعيت من يداويها.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة