في الأزمة الراهنة، أصدر الاتحاد الأوروبي العديد من بيانات الإدانة للمواقف التركية، ومنها بيان قمة قادة دول الاتحاد في ديسمبر 2019.
رغم الانتقادات الأوروبية والأمريكية لمواقف تركيا في شرق المتوسط، مايزال الرئيس التركي أردوغان مستمراً في سياساته التصعيدية والاستفزازية في المنطقة، والتي أخذت أشكال التنقيب عن الغاز في مناطق متنازَع عليها مع اليونان، وفي مناطق تدخل ضمن المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص، والقيام بمناورات عسكرية بحرية وجوية كان أحدثها ما تم في 24 أغسطس 2020 في بحر إيجة بالقرب من الجرف القاري لليونان.
أصبحت دائرة شرق البحر المتوسط إحدى الدوائر الرئيسية لحركة السياسة الخارجية التركية، ولعدد من الدول الإقليمية والقوى الأوروبية. يرجع ذلك لأسباب عدة، منها التسابق على ثروات الطاقة المكتشَفة حديثاً في المنطقة وأهميتها التجارية، إذ تُعتبر مركزاً مهماً للتجارة الدولية ومعبرا إلى المحيط الهندي من خلال قناة السويس، ويمر فيها حوالي 30% من إجمالي تجارة العالم و25% من تجارة النفط. فضلاً عن دورها في حماية الطرف الجنوبي لحلف الناتو وحماية أوروبا من عمليات الهجرة غير الشرعية والعناصر المتطرفة والإرهابية. ولذلك، أصبحت المنطقة عاملاً مؤثراً على الأمن الإقليمي وبؤرة لشبكة معقدة من التفاعلات التعاونية والتنافسية والصراعية.
وبينما يتحدث أردوغان عن الحقوق التركية وفقاً لقواعد القانون الدولي ويؤكد التزامه بها، فإن ممارساته تأتي عكس ذلك تماماً. ومن ذلك، استخدام القوة العسكرية لمنع سفن الاستكشاف والتنقيب التابعة لدول أخرى من العمل في المناطق التي تدَّعي تركيا تبعيتها لها، وإرسال سفن الاستكشاف والبحث التركية ترافقها فرقاطات عسكرية إلى مناطق متنازَع عليها مع قبرص واليونان. ومنها منازعة اليونان في سيادتها على جزر "إيميا"، وتحديدها مساحة الجرف القاري اليوناني في بحر إيجة، رغم أن تركيا وافقت على هذا التحديد من قبل. كما سعت تركيا إلى إجبار الدول الأخرى على الاعتراف بالحقوق البحرية للكيان السياسي المُسمى جمهورية شمال قبرص التركية والذي اقتطعه الجيش التركي من قبرص عام 1974، والذي لا تعترف به أي دولة في العالم غير تركيا، بدعوى أن هذا الكيان له السيادة على 44% من المنطقة الاقتصادية الخالصة لقبرص.
ومن هذه الممارسات أيضاً، الاعتراض على اتفاقيات ترسيم الحدود البحرية التي وقَّعتها قبرص مع مصر ولبنان وإسرائيل، والاتفاقية بين مصر واليونان عام 2020، بدعوى مخالفتها لقواعد القانون الدولي. هذا في الوقت الذي وقَّع فيه أردوغان اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الليبية عام 2019 والتي لا تأخذ في اعتبارها حقوق كريت والجزر اليونانية الأخرى في أن يكون لها المناطق الاقتصادية الخالصة الخاصة بها.
والأدهى من كل ما تقدم، أن بعض هذه الممارسات تمثِّل انتهاكاً للالتزامات التي تعهدت بها الجمهورية التركية في اتفاقية لوزان 1923، وباريس 1947، وأنها لم توقع معاهدة الأمم المتحدة لقانون البحار لعام 1982، والتي تم ترسيم الحدود البحرية بين قبرص واليونان ومصر وإسرائيل وفقاً لها، وتم إيداع نسخاً منها لدى الأمم المتحدة.
والأمر المُلاحظ أنه بينما تكثر الانتقادات الدولية على سياسة تركيا في بيانات وتصريحات، فإنه تقل الأفعال والأعمال التي تُثني تركيا عن سياساتها الاستفزازية غير القانونية، مما يشجعها على الاستمرار فيها. فإذا أخذنا على سبيل المثال الاتحاد الأوروبي وهو الإطار الذي يضم الدولتين الأكثر تضرراً من السياسات التركية وهما اليونان وقبرص، فسوف نجد "أقوالا وليس أفعالا".
فعلى مدى سنوات، استمر التوتر في العلاقات الأوروبية-التركية وكان من مظاهر ذلك الرفض الأوروبي للممارسات التركية التعسفية عقب محاولة الانقلاب في يوليو 2016، والأزمة مع فرنسا بسبب التدخل العسكري التركي في عفرين السورية، وابتزاز تركيا للاتحاد الأوروبي بورقة المهاجرين، وفشل القمة التركية الأوروبية في مارس 2018 في حل القضايا المعلقة بين الطرفين.
في الأزمة الراهنة، أصدر الاتحاد الأوروبي العديد من بيانات الإدانة للمواقف التركية، ومنها بيان قمة قادة دول الاتحاد في ديسمبر 2019، الذي أعلنوا فيه وقوفهم "بشكلٍ قاطع" إلى جانب اليونان وقبرص. وتكرر هذا المعنى في بيانات أخرى عديدة. طالب الاتحاد تركيا بوقف أعمال الاستكشاف والتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وهدد بفرض عقوبات رادعة عليها إذا لم تفعل ذلك، وصدر قرار بتخفيض حجم المساعدات الاقتصادية التي يقدمها الاتحاد لتركيا، ووقف إبرام اتفاقيات جديدة لبيع السلاح لها. ورد أردوغان على الموقف الأوروبي بمزيد من التصعيد، قائلاً إن تركيا لن تخضع للتهديدات وفرض العقوبات.
والحقيقة، أن عدم قيام الاتحاد الأوروبي بتبني مواقف أكثر قوة يعكس الاختلافات بين دوله بشأن الموقف الذي ينبغي اتخاذه تجاه سياسات أردوغان. كانت فرنسا الدولة الأوروبية التي اتخذت مواقف عملية وعززت من وجودها العسكري في شرق المتوسط وقامت مع إيطاليا بمناورات مع اليونان وقبرص. وحذَّر الرئيس ماكرون من أن ضعف الموقف الأوروبي يشجع أردوغان على الاستمرار في سياساته المُهددة للاستقرار والأمن في المنطقة. فالمطلوب اذاً ليس الإدانة أو الانتقاد وحسب وإنما الردع.
لقد تحولت السياسة التركية 180 درجة خلال فترة حكم أردوغان. فبدلاً من هدفيْ "تصفير المشكلات" و"استخدام القوة الناعمة" في العقد الأول من هذا القرن، فإنها اليوم تعتمد على القوة العسكرية، ليس فقط في شرق المتوسط، وإنما في سوريا والعراق وليبيا. ويرجع هذا التحول إلى استفحال الأزمات الداخلية في تركيا، واتباع أردوغان استراتيجية "الهروب إلى الأمام"، وافتعال أو تأجيج صراعات خارجية.
وكانت النتيجة واقع العزلة الإقليمية التي تعيشها تركيا الآن.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة