يبدو أن المقصود بنبع السلام هو تجفيف ينابيع المياه وإغلاق مصادرها عن نهر الفرات في "الرقة"، والسيطرة على محطة توزيع المياه.
لم يدخر نظام أردوغان سلاحاً أو وسيلةً لتحقيق أحلامه على الأرض السورية منذ اندلاع الصراع فيها عام 2011، إذ تنوعت الأساليب التركية في إذكاء الصراع والمتاجرة بدماء السوريين بدءاً من تسليح وتمويل الجماعات الإرهابية مروراً بعقد الصفقات السياسية، وليس انتهاءً بقضم أراضٍ سورية واحتلالها على طول الحدود الممتدة لأكثر من ألف كم2، وكانت آخر هذه العمليات عملية "نبع السلام" المزعومة التي احتلّ الجيش التركي بموجبها مساحات واسعة من مناطق الجزيرة السورية الشمالية وخاصة في ريفي الرقة والحسكة، ويبدو أن المقصود بنبع السلام هو تجفيف ينابيع المياه وإغلاق مصادرها عن نهر الفرات في "الرقة"، والسيطرة على محطة توزيع المياه لمحافظة الحسكة سلة غذاء سوريا التي يقطنها ما يزيد على مليون نسمة، والعبث بأرواح البشر بقطع المياه وفق تكتيك مزاجي ممنهج، وكان آخرها منذ ما يقارب الشهر إذ عمدت القوات المحتلة والميليشيات المنضوية تحت لوائها إلى محطة "علوك" لضخ المياه وهي المصدر الوحيد لتغذية "الحسكة" بمياه الشرب.
وهذه ليست المرة الأولى التي تعمد فيها "تركيا" إلى سلاح التعطيش الذي توجهه على شفاه وأكباد المدنيين والأطفال العطشى في الصيف اللاهب، فكلما أرادت "أنقرة" الضغط على الحكومة السورية أو على قوات "قسد" اللتان تديران المدينة، عمدت إلى قطع المياه وكل مرة بمطلب جديد، أما هذه المرة فالحجة هي أنها لن تعيد ضخ المياه من محطة "علوك" ما لم يتم إمداد مناطق سيطرة "تركيا" والفصائل الموالية لها بما تريد من كهرباء، على الرغم من أن واقع الكهرباء في مناطق شرق الفرات عموماً يعد من أكثر المناطق السورية سوءاً من حيث شحّها والافتقار إليها، لا سيما بعد خفض تركيا لحصة سورية من مياه نهر الفرات وتدني منسوب المياه في السد، الذي صارت عنفاته عاجزة عن العمل بالطاقة الطبيعية لما تنتجه من كهرباء التي كانت أصلاً لا تغطي إلا جزءاً ضئيلاً من احتياجات المنطقة الشاسعة على الرغم من عملها بطاقتها الكاملة، بالإضافة إلى تلف أجزاء كبيرة من الشبكة الكهربائية خلال سنوات الحرب عدا عن افتقار المنطقة أساساً لمحطات توليد الكهرباء الحرارية، مما جعل المورد الرئيس للطاقة الكهربائية في مناطق شرق الفرات هي المولدات العاملة بالديزل باهظة التكلفة وقليلة ساعات العمل في كل قرية أو حي وبمجهود أهلي على مستوى التجمع السكني الواحد، لتأمين الحد الأدنى مما يلزم من الطاقة ولسويعات محدودة لا تسمن ولا تغني من جوع، الأمر الذي يجعل من الصعوبة بمكان تلبية مطالب الأتراك بتزويد المناطق التي احتلوها بالطاقة كما يريدون، إلا إذا تم تخفيض ساعات عملها - النادرة أصلاً - في مناطق شرق الفرات ومن ضمنها الحسكة.
لعل هذا السلاح هو الأقذر من حيث فتكه ومساسه بحياة المدنيين بشكل مباشر وخصوصاً الأطفال، في ظل أجواء صيفية لاهبة، إذ تعد مدينة الحسكة التي يقطنها أكثر من مليون نسمة الأولى على مستوى سورية والمنطقة من حيث درجة الحرارة التي تتجاوز حدود الخمسين درجة صيفاً، وإن استخدامه ولا سيما في ظروف الطقس الحار وواقع الحسكة المفتقر للمياه، يرقى ليصنف جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية، ولكن شراهة السلطان للدماء والتفنن في إخضاع الناس والتحكم برقاب العباد، يجعله شيطاناً في ممارساته التي لا تمت للإنسانية بصلة، وهو المتشدق ليل نهار بتأطير نفسه على أنه سلطان المسلمين، والإسلام براء من أفعاله الدنيئة، فالإسلام يحث أبناءه على إغاثة الملهوف وريّ الأكباد العطشى لا تعطيشها وزيادة بؤسها، فـ "في كل كبد رطبةٍ أجر" (حديث متفق عليه)، أحاديث وقواعد وأسس دينية لا يفقهها الشيطان ومفتوه، الذين لا يعلمون سوى لغة الفساد في الأرض، ضاربين عرض الحائط أية قيمة أخلاقية أو إنسانية أو حتى دينية سمحة، في سبيل تحقيق غاياتهم التدميرية باستهداف الإنسان قبل كل شيء ومن ثم البلاد والثروات، فبعد أن نهبت قوات الاحتلال التركي المحاصيل الزراعية مما وصلت إليه يديها في منطقة تعد سلة الغذاء السورية في إنتاجها لمحصولي القمح والشعير بهدف تجويع المدنيين ها هي اليوم تمارس التعطيش عليهم بعد أن سلبتهم لقمة عيشهم.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة