إن كانت أنقرة تراهن على انقسام الاتحاد الأوروبي إزاء الرد على أطماع أردوغان التوسعية، فعليها أن تعيد حساباتها.
ظن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن عضوية بلاده في حلف الناتو ستتيح له التمدد في مياه المتوسط دون حسيب أو رقيب، وما زاد من غرور أوهامه هذه، تلك الاتفاقية المشوهة التي أبرمها مع حكومة الوفاق الليبية واعتبرها بوابة الزمن التي ستعيد الاحتلال العثماني إلى الدول العربية.
نقطة ثالثة أغرقت السلطان في أحلام اليقظة لاحتلال شرق المتوسط، ألا وهي تباطؤ الولايات المتحدة في إعلان موقفها من التمدد التركي عندما يمس مصالح الأوروبيين، اعتقد أردوغان أن الرئيس دونالد ترامب سيغض الطرف عما يفعله على سواحل حلفاء واشنطن في أوروبا.
اتصالات ترامب وأردوغان وضعت النقاط على الحروف، فخلافات دول الناتو يجب أن تحل بالحوار، ولا يوجد استثناء للأتراك في هذه المعادلة. لماذا يمكن أن تفضل الإدارة الأمريكية تركيا على الأوروبيين؟ يسأل السلطان نفسه، فتقفز إلى ذاكرته كثير من نقاط الخلاف العالقة بين واشنطن وأنقرة.
في المساس بمصالح الأوروبيين تجاهل أردوغان تحذيرات الأصدقاء والخصوم له، وهذه من الأعراض التي تظهر على من يفرط في تقدير نفسه، فقد مضى "السلطان" في غيه حتى وجد نفسه في مواجهة عسكرية مع شركاء الناتو، وذهب في تمرده حتى امتلأ شرق المتوسط بالأسلحة الموجهة إلى سفنه.
الفرنسيون قالوها منذ البداية نيابة عن الأوروبيين، لا يحق للأتراك استباحة حقوق دول شرق المتوسط لأي سبب، سواء كان بحجة أنهم شركاء في حلف الناتو، أو لقاء حماية القارة العجوز من موجة ثانية من الهجرة غير الشرعية، أو مقابل منع الروس من التمدد في شمال أفريقيا أو الشرق الأوسط.
بالنسبة للفرنسيين خاصة والأوروبيين عموما، لا يوجد ما يبرر البلطجة التركية في شرق المتوسط، وإن كانت أنقرة تراهن على انقسام الاتحاد الأوروبي إزاء الرد على أطماع أردوغان التوسعية، فعليها أن تعيد حساباتها. ثمة مصالح عليا للتكتل تتجاوز بكثير العلاقات الضيقة لبعض دوله مع تركيا.
هذه كانت فحوى الرسالة الألمانية لأردوغان عندما طالبته برلين بوقف التنقيب في المياه والتفاوض مع اليونان، المستشارة أنجيلا ميركل كانت واضحة جداً في هذا الإطار، الحوار هو السبيل الوحيد لحل أزمة شرق المتوسط، مهما استعرض الأتراك من سفن وأدوات، أو استدعوا من مرتزقة وقوات.
رضخ أردوغان على مضض، واختار اتفاقية ترسيم الحدود البحرية بين مصر واليونان كذريعة ليهرب من التزامه بالحوار مع أثينا، افتعل مسرحية هزلية ليصور أن الاتفاق يمثل تراجعا من قبل الأوروبيين عن مساعي الحوار لحل الأزمة، ونسي أن للدول حق التعاون فيما بينها بما يتيح ذلك القانون الدولي.
المضحك في اعتراض تركيا على اتفاق مصر واليونان هو أنها تتعارض مع الحقوق الليبية وليس التركية في المتوسط، منح السلطان نفسه الحق في الدفاع عن حقوق دولة عربية بذل أبناؤها كل ما هو غال ونفيس لديهم في سبيل التحرر من أجداد أردوغان قبل أكثر من مئة عام.
لم تنطلِ حيلة "الدولة العليّة" على الأوروبيين، وما أن استأنفت السفن التركية نشاطها شرق المتوسط حتى أرسلت باريس تعزيزات عسكرية إلى المنطقة، ورفعت أثينا من حالة التأهب في قواتها المسلحة البحرية، مرة أخرى جاءت الإجابة بالرفض، لن يسمح لأردوغان بالمضي في أطماعه وأحلامه.
استشعرت أنقرة الخطر، وعادت إلى الألمان لتخبرهم أن انقلابها على الحوار مع أثينا في المرة الماضية كان تهورا وانفعالاً، لم تزد برلين عما قالته سابقاً، فلا شرعية للوجود التركي في المتوسط إلا بقدر ما تتمخض عنه المفاوضات مع الدول ذات الشأن، لن تفيد القوة العسكرية، ولن تنفع المغامرات.
لا يمكن لتطلعات أردوغان في المتوسط أن تكون أكثر من مغامرات لا أفق لها، لا يوجد في أعماق البحر أكراد يدعي أنهم يهددون أمن تركيا القومي، وحكومة طرابلس التي يتذرع السلطان بحماية حقوقها، فاقدة لشرعيتها حتى لدى الليبيين.
لن يخرج أردوغان من أزمة المتوسط إلا بأعباء سياسية واقتصادية جديدة، ومهما كانت مكاسبه التي يبشر بها أتباعه في الداخل والخارج، فسيكون المقابل أكبر بكثير، يعرف السلطان جيدا أن سفنه التي تنقب عن النفط والغاز في قاع البحر، تحفر قبوراً عميقة لفرص مصالحته مع الأوروبيين.
لقد اختارت تركيا أردوغان المشاكل بدلا من الحلول، وراكمت من الأعداء ما يفوق الأصدقاء بأضعاف مضاعفة، ظن السلطان أن إمعانه في البلطجة سيخيف من حوله ويجبرهم على تنفيذ رغباته، ولكن الحقيقة أن سلوكه يقوده إلى مواجهة سيدرك فيها أن الأوهام لا تبعث الشباب في الرجل العجوز.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة