ما قامت به الإمارات الأيام القليلة الماضية اختراق للحدود والسدود، هدفه الأول والأهم، الحفاظ على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني.
بعد ساعات قليلة من إعلان الرئيس دونالد ترامب نبأ ما اصطلح على تسميته "الاتفاق الإبراهيمي"، بدا العالم برمته مشدوها أمام لحظة مفصلية تصنعها الإمارات من جديد، لحظة سوف يتجاوز أثرها الإقليم إلى بقية أرجاء العالم، لما فيها من معان ومبان، لا يقدر عليها إلا أولي العزم من الرجال الشجعان، الذين يفكرون بعزم ويعملون بحزم، ولا ينفكون حتى ينالوا ما يقصدون .
فكرة معاهدة إماراتية إسرائيلية، بضمانات أمريكية، لاستنقاذ المنطقة من مآلات الكراهية ومنزلقات العداء، تجمع كما العادة في التوجهات الاستراتيجية الإماراتية بين أمرين مصيريين: الأول هو القدرة على قراءة الواقع بعين الواقعية السياسية، وحتى لا يكون هناك انفصال عن سياقات الأحداث ونوازل الزمن، والثاني هو الاستشراف الجريء للمستقبل، وكلاهما لا يصدران إلا عن قائد شجاع واستثنائي كما الحال مع سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان.
الواقعية في المشهد العربي الإسرائيلي تشير إلى خلافات جرت وتجري منذ أكثر من سبعة عقود، سالت خلالها الدماء من الجانبين، ودفع الشعب الفلسطيني أكلافا عالية وغالية من يومه وغده، من حاضره ومستقبله، وبالقدر نفسه من الأجيال المتعاقبة على مر الآجال .
أما المستقبل فلا أحد يمكنه أن يقطع الطريق للتطلع إليه، إنه يفتح أبوابه واسعة لأصحاب الأحلام العريضة، وبخاصة إذا كانت أحلام مشروعة، تسعى للنماء لا للفناء، وتبغي الاستمرار والاستقرار، والخير للجميع .
طوال عقود تمترس البعض وراء الشعارات الزائفة، وكان في مقدمها المصطلح الشهير:" ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة "، وفات أصحابه أن الحصول على الحقوق واستراجاعها فن كبير، ومهارة بالغة، بل عملية تحتاج إلى تخطيط وتكتيك بداية الأمر، ولاحقا بلورة رؤية استراتيجية لا تغيب عن أعين الساعين لاسترجاع حقوقهم .
ربما فتحت الإمارات أعين العرب على حقيقة أن مفهوم القوة لم يعد مرتبطا بالآليات الخشنة فحسب، وعبر ميادين الوغى فقط، فقد أصبحنا في أيام تلعب فيها القوة الناعمة دورا لا يقل أهمية عن ذاك الذي تقوم به سابقتها، ولهذا يمكن القطع بأن الدبلوماسية الذكية تستطيع أن تسترد الكثير من الحقوق المسلوبة، ولو عبر دروب غير تقليدية .
ما يميز الطروحات والشروحات الإماراتية هو أنها لا تسير عادة في دوائر الاتباع التقليدية، وإنما لديها من الجرأة والقدرة ما يدفعها للقفز إلى آفاق الإبداع، والبحث في ثنايا العقول وحنايا الأضلع والصدور، والهدف هو إيجاد مسالك ودروب ابتكارية تدهش القاصي والداني.
ما قامت به الإمارات الأيام القليلة الماضية اختراق للحدود والسدود، هدفه الأول والأهم، الحفاظ على الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، ودعم نسيجه المجتمعي الذي أوشك أن يتفتت، وعلى الأبواب كانت هناك خطة " الضم " التي يقودها رئيس الحكومة بنيامين نتانياهو، وهي وحدها كفيلة بالقضاء مرة وإلى الأبد على أمرين : أولا إنهاء آمال وأحلام الشعب الفلسطيني في سلام قادم يعوض عن المرائر التاريخية، وثانيا توديع فكرة الدولة الفلسطينية الموحدة على التراب الفلسطيني التاريخي .
تستلهم الإمارات العربية روح الأحداث الجسام والتي اعتبرت أحجار زاوية على مر التاريخ، والآن تضع الشعب الإسرائيلي أمام فرصة تاريخية لا تعوض، إذ تفتح له الأبواب واسعة للتعاون التدريجي الخلاق والإيجابي مع شعوب المنطقة من جهة، وتبسط أمامه أيضا ماورائيات إضاعة فرصة ذهبية مثل هذه الأخيرة والبقاء في الغيتو التاريخي، والتمترس وراء النار والدمار .
ضمن المعادلات التي تفرض نفسها بنفسها في المنطقة الشرق أوسطية، فكرة تنامي الأصوليات الضارة، وهي ليست قاصرة على العرب والمسلمين فحسب، فهناك في قلب إسرائيل كما في العالم العربي موجات فتاكة من التطرف مثل جماعة " لهفاه "، التي تمثل المكافئ الموضوعي لداعش .
في هذا الإطار يأتي الإعلان الإماراتي للسلام ليقلص إلى أكبر حد ومد من مربعات الأصولية، تلك التي تجد ما تقتات عليه وسط أجواء الكراهية والخصام، وتتبخر مع نسائم السلام والوئام .
القول بأن الاتفاق إبراهيمي، أمر له مغزاه الواضح للنخبة والعوام، فإبراهيم هو أبو الآباء، الذي يجمع ولا يفرق، والذي يدفع سكان الشرق الأوسط للتأمل مليا وجليا في روابط الأخوة الإنسانية التي تجمعهم، إنهم أخوة أبناء أب واحد .
تأتي مبادرة الإمارات للسلام مع إسرائيل بضمانة أمريكية، غير بعيدة عن الأجواء الإنسانية التي عرفتها الإمارات في فبراير 2019، حين وقعت على أراضيها وثيقة "الأخوة الإنسانية"، تلك الوثيقة التي زخمت ودعمت روح الوصل لا الفصل، بين أبناء إبراهيم عليه السلام، وباتت عنوانا للرسالة الإماراتية، التي تمثل مدخلا جديدا لدول العالم في ظل أزمات الفراغ الاستراتيجي غير المسبوق، مدخلا للطمأنينه وليس للخوف .
الإمارات ترسم ملامح ومعالم مئة عام جديدة في الشرق الأوسط .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة