يقدر أنه خلال العام الماضي، خرج نحو 16 مليار دولار من رأس المال الأجنبي من البورصة التركية.
يمضي الاقتصاد التركي من سيئ إلى أسوأ في ظل إدارة اقتصادية رديئة، ونزوع استعماري لسياسات الرئيس التركي الإقليمية تُحمل البلاد تكلفة لا تطيقها. وليس أدل على سوء الإدارة الاقتصادية من النظرة التي يتبناها أردوغان، والتي ترى أن خفض أسعار الفائدة يؤدي إلى خفض معدل التضخم، وهو ما يتنافى مع كافة النظريات والشواهد العملية الاقتصادية، وربما تتكثف مشكلات الاقتصاد التركي الآن بالذات في تسجيل عجز متزايد في ميزان العمليات الجارية الذي يتضمن صادرات وواردات السلع والخدمات، إلى جانب ارتفاع معدلات البطالة والتضخم، وربما يكون التطور الراهن الكاشف عن عمق أزمة النموذج الاقتصادي التركي المستند إلى تدفق كبير للتمويل الأجنبي -خاصة عبر الديون- على مدى أكثر من عقد هو الانخفاض المتتالي في سعر صرف الليرة التركية، وما يترتب عليه من آثار تجعل الخيارات المتاحة لخروج الاقتصاد التركي من أزمته خيارات أحلاها مر.
اندفاع نحو الديون الخارجية
أدى انخفاض أسعار الفائدة على الدولار الأمريكي بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 بهدف العمل على إنعاش الاقتصاد الأمريكي إلى جعل الاقتراض أقل تكلفة، وهو ما شجع البنوك التركية على الاقتراض بالدولار، واستغلت البنوك تلك الدولارات في إقراض الشركات التركية في قطاعات مثل السياحة والطاقة والبنية الأساسية والعقارات، وأضحى النمو الاقتصادي معتمدا على تدفق منتظم من رأس المال الأجنبي لتمويل الاستهلاك المحلي والاستثمارات في بناء المساكن والطرق والجسور والمطارات وغيرها. وفي الوقت الذي يعد فيه دخل قطاعات مثل العقارات والبنية الأساسية أساسا بالعملة التركية، كان ما يزال على البنوك أن تسدد ما اقترضته بالدولار، والمشكلة أنه عند انخفاض سعر صرف العملة التركية، وهو ما حدث بالفعل خلال السنوات القليلة الماضية، يصبح من الصعب أكثر على المشروعات التركية إعادة سداد ديونها الدولارية وهو ما يؤدي بدوره إلى أزمة مصرفية، ويقدر أن ديون الشركات التركية بلغت نحو 300 مليار دولار، منها 100 مليار ديون قصيرة الأجل أي ينبغي سدادها خلال أقل من عام.
وقد حدث انخفاض سعر صرف الليرة التركية أولا في صيف عام 2018، مع خروج المستثمرين الأجانب من عدد من الأسواق الناشئة، ثم تضاعف هذا في حالة تركيا نتيجة لسياسات الرئيس التركي الذي أقال محافظ البنك المركزي في يوليو 2019 وعمل على خفض أسعار الفائدة وفق نظرته لتشجيع الاقتصاد على الانتعاش ومحاربة التضخم، وهو ما أدى إلى المزيد من هروب رأس المال الأجنبي.
وهكذا جاء خروج المستثمرين الأجانب بشكل لم يحدث من قبل. ويقدر أنه خلال العام الماضي، خرج نحو 16 مليار دولار من رأس المال الأجنبي من البورصة التركية، وطالما بقي المستثمرون الأجانب بعيدا، ستبقى الزيادة في سعر صرف العملات الأجنبية مصدر تهديد دائم، كما حدث من هبوط قيمة العملة التركية يوم 6 أغسطس وحده بنسبة 4%.
آثار انخفاض قيمة الليرة
مع الانخفاض في سعر صرف الليرة يرتفع الطلب على النقد الأجنبي باعتباره ملاذا آمنا بعد فقدان الثقة في العملة التركية، وهو ما يطلق عليه "الدولرة". وقد بلغت نسبة الادخار بالعملات الأجنبية نحو 53% من جملة الادخار. كما ارتفع الطلب على العملات الأجنبية أيضا لسداد الدين الخارجي واجب السداد خلال 12 شهرا مقبلة وهو ما يبلغ قرابة 170 مليار دولار، علاوة بالطبع على الحاجة للعملات الأجنبية من أجل الاستيراد.
وفي الوقت الذي ارتفع فيه الطلب على العملات الأجنبية انخفضت الإيرادات من العملات الأجنبية مع انخفاض الصادرات وانهيار الدخل السياحي بسبب تفشي فيروس كورونا، قد تركت هذه الأزمة البنك المركزي بدون أي خيار سوى محاولة اللجوء إلى اتفاقيات تبادل العملة، واستطاع تأمين 50 مليار دولار عبر هذه الوسيلة، حيث قررت قطر في 20 مايو الماضي مضاعفة اتفاقها لتبادل العملة مع تركيا بنحو ثلاثة مرات من 5 مليار دولار إلى 15 مليارا، وتم توفير الجزء الأكبر الباقي من البنوك المحلية. وتشكل اتفاقيات تبادل العملة الآن نحو 68% من إجمالي احتياطيات البنك المركزي، وتعد مثل هذه الوسيلة كما يقول بعض المحللين مجرد شراء للوقت، حيث سيصبح التحكم في سعر الصرف أكثر صعوبة في المدى الطويل.
وقد ارتفع التضخم ليسجل ما يتراوح بين 12% إلى 13% في شهري يونيو ويوليو، ليزيد من عملية الهروب من الليرة التركية، والتي تعد الفائدة الحقيقية عليها سالبة، حيث يزيد معدل التضخم عن معدل الفائدة الذي تمنحه البنوك والذي يفوق 8% بقليل. ولذا يرى المدخرون بشكل متزايد أن العملات الأجنبية تعد ملاذا آمنا للحفاظ على قيمة مدخراتهم، وهو ما زاد من معدل الادخار بالعملات الصعبة.
مع تفشي جائحة كورونا تأثرت كافة الأسواق الناشئة ومن بينها تركيا.،وقد فقدت الليرة 10% من قيمتها خلال شهري مارس وأبريل وحدهما، ومع استقرار نسبي في سعر الليرة خلال شهري يونيو ويوليو نتيجة للتدخل المكثف من قبل البنك المركزي عادت للانخفاض من جديد. وفقدت الليرة نحو 22% من قيمتها منذ بداية العام الحالي، وقد وصل سعر الليرة مؤخرا بين 7.3 إلى 7.4 ليرة مقابل الدولار، ويتوقع البعض استمرار هذا التدهور ليصبح سعر صرف الدولار 8 ليرات بعدما كان يبلغ 3 ليرات في سبتمبر 2016.
ومع انخفاض سعر صرف الليرة زادت أسعار السلع المستوردة وهو ما أدى إلى انخفاض مستوى معيشة الأتراك، وخوفا من آثار ذلك قررت الحكومة التركية التدخل للحيلولة دون المزيد من الانخفاض في سعر الصرف. وقد حدث التدخل عن طريق بيع الدولارات وشراء الليرة في السوق المفتوحة من أجل دعم قيمة العملية التركية، وأوقف هذا الإجراء بشكل مؤقت سعر الصرف عند 6.85 ليرة مقابل الدولار خلال معظم شهري يونيو ويوليو. ولكن إنفاق الاحتياطيات الدولارية للدفاع عن سعر صرف الليرة هو أمر ممكن طالما هناك دولارات يتم إنفاقها، ولكن مع استنزاف احتياطي البنك المركزي بدأت الحكومة كما سبق الذكر في التوجه للاقتراض من البنوك التركية، وأصبح البنك المركزي مدينا للبنوك التركية بمقدار 54 مليار دولار. ويقدر أن جملة ما أنفقته الحكومة هذا العام للدفاع عن العملة وفقا لتقديرات بنك جولدمان ساكس نحو 65 مليار دولار علاوة على 40 مليار دولار تم إنفاقها خلال العام الماضي.
وقد أدى تدخل البنك المركزي لمحاولة التحكم في سعر الصرف إلى تآكل رصيده من العملات الصعبة، التي اقترضها عن طريق اتفاقيات تبادل العملة بعدما استنزف احتياطاته الخاصة. وعمل ذلك على تكثيف خروج المستثمرين الأجانب.
وقد أدى هروب رأس المال الأجنبي إلى ما يشبه الشلل الجزئي للاقتصاد التركي، الذي يعتمد بشدة على التمويل الأجنبي للنمو، كما أن الاقتصاد مُثقل أيضا برصيد الدين الأجنبي الذي يبلغ نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي، وتأتي تركيا في المرتبة الرابعة من حيث خطورة الدين الأجنبي بعد كل من فنزويلا والأرجنتين وأوكرانيا، وقد ارتفعت علاوة المخاطرة كما تعكسها عمليات تبادل العملة إلى ما يتراوح بين 5 إلى 6 نقاط مئوية في بداية شهر أغسطس، وهو ما يبلغ قرابة ضعف علاوة المخاطرة على ديون جنوب أفريقيا التي تحتل المرتبة الثانية من حيث نسبة هذه العلاوة في بلدان الأسواق الناشئة بعد تركيا.
وكما يوضح الكاتب "كريس ميلر" في مقال نشر على موقع دورية "شؤون خارجية" الأمريكي في 11 أغسطس، فإن الإنفاق التركي الذي يفوق الإمكانيات المتاحة أدى إلى عجز كبير. وتم إخفاء تكلفة هذا العجز لتستقر في النظام المالي، وخاصة النظام المصرفي، وبذلك بقي العجز غير ظاهر للجميع مع أنه واضح بالنسبة للمؤسسات المالية، فهناك في الحقيقة القليل نسبيا من الدين السيادي وهو الدين الذي يتم تمويله عادة عن طريق إصدار سندات دولية، على الرغم من أن هذا الدين قد بدأ في الارتفاع مؤخرا، وهو ما يحاول وزير المالية الاستناد إليه للقول بأن الأوضاع مطمئنة، ولكن الواقع أن معظم الاقتراض تم عن طريق القطاع المصرفي التركي، سواء في ذلك البنوك العامة أو الخاصة لتتراكم في هذا القطاع من ثم المصاعب التركية.
الخيارات المتاحة
كما يشير بعض المحللين فإن الاختيارات المتاحة أمام أردوغان تعد كلها صعبة، فأحد الحلول هو ترك سعر الليرة يهبط وترك الشركات التركية تكافح في سداد ديونها الدولارية، ويمكن للانخفاض الحاد في سعر صرف الليرة أن يدفع إلى حد التهديد بإفلاس البنوك التركية. علاوة على أنه يزيد من تكلفة معيشة المواطنين مع ارتفاع أسعار السلع المستوردة، أضف إلى هذا أن العديد من المنتجات الصناعية التركية ومنها سلع التصدير تعتمد على استيراد الكثير من مكوناتها، وبالتالي تزداد تكلفة إنتاج هذه السلع، ويحد ارتفاع تكلفة الإنتاج بذلك مما قد يوفره انخفاض سعر الصرف من فرص تنافسية أكبر للصادرات. والحل الثاني يمكن أن يتم عن طريق رفع أسعار الفائدة وبالتالي العمل على استقرار سعر صرف الليرة، ولكن هذا سيكون على حساب إلقاء الاقتصاد التركي في ركود أعمق ومضاعفة آثار الركود الناجم عن فيروس كورونا حيث يبلغ معدل البطالة الرسمي 12.8% -مع تقدير البعض أن المعدل الحقيقي يزيد عن ذلك بكثير- ويعمل كل ذلك بالتالي على إضعاف شعبية أردوغان، والخلاصة هي كما يقول "كريس ميلر" إن النظام التركي قد خلق شعورا زائفا بالاستقرار الاقتصادي عبر إخفاء مديونيته في عمق النظام المصرفي، ولكن إخفاء مشكلات البلاد الاقتصادية بهذه الطريقة هو مجرد عملية تستر مؤقتة قصيرة العمر.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة