الرئيس الجمهوري قام بأكبر عملية لرفع القيود عن الاقتصاد الأمريكي عرفت في التاريخ المعاصر؛ وكانت النتيجة ازدهارا غير مسبوق.
مساء السبت قبل أسبوع بدأت رحلتي إلى الولايات المتحدة الأمريكية والممتدة لأسبوع آخر. كانت المرة الأولى التي أخرج فيها إلى خارج مصر منذ يناير الماضي. ولم يكن من السهل خوض التجربة قبل الذهاب إلى مطار القاهرة الدولي لكي اكتشف كم تغير العالم خلال ما انقضى من عام ٢٠٢٠، فلا كان المطار على حاله، ولا كانت الطائرة، ولا كان الركاب، ولا كانت محطة الانتقال من طائرة إلى أخرى في الطريق، ولا كان الحال في مطار جورج بوش الدولي في مدينة هيوستن. بدا الأمر كما لو كان إما رحلة إلى الفضاء الخارجي، أو رحلة داخل زمن ما بعد فناء الحياة على كوكب الأرض. مجموعات الناس لابسي الكمامة خلقت حالة من الاغتراب والابتعاد عن أشخاص لا تستطيع التعرف على وجه الدقة ملامحهم؛ وانكمشت الخدمات إلى أقل درجاتها بغية تقليل عدد الأشخاص، وبالتأكيد الإنفاق أيضا. كان الأمر كله تجربة لزيارة الدنيا بعد جائحة الكورونا، وبحكم التخصص والمهنة كان التوقيت مناسبا للغاية بالنسبة لبداية انعقاد مؤتمر الحزب الجمهوري بعد أسبوعين تقريبا من سيطرة الحزب الديمقراطي على الإعلام الأمريكي قبل وأثناء وبعد انعقاد مؤتمرهم الحزبي لترشيح جو بايدن. الأمر هكذا من الأمور المعتادة في الانتخابات الأمريكية عامة والرئاسية خاصة حيث يتاح للحزبين الرئيسيين فرصة واسعة قبل بداية شهر سبتمبر لبلورة مواقفه واختلافاته عن الحزب الآخر. في سبتمبر ينتهي التوضيح وتبدأ المبارزة من خلال المناظرات التي سوف تجري ما بين المرشحين. ولكن لحظة الوصول كانت لحظة الجمهوريين لكي يقولوا كلمتهم فيما جرى ويجرى في الولايات المتحدة والعالم أيضا. الحالة في شكلها مثيرة، ولكنها بعيدا عن الإثارة تثير العديد من القضايا الجوهرية التي لا تتعلق كلها بأمريكا وحدها، وإنما ربما بالعالم كله، ليس فقط لأنها دولة عظمى، وإنما هي مع ذلك لديها القوة الناعمة الكافية لتغيير أفكار العالم.
وبالتأكيد كان انتخاب الرئيس دونالد ترامب قبل أربع سنوات تقريبا نقطة تحول غير عادية في الأفكار الشائعة التي تقدمها الولايات المتحدة إلى الدنيا كلها. كانت دعوة الرئيس الجديد في ذلك الوقت من أجل عودة الدولة "عظيمة" مرة أخرى، كاشفة عن المدى الذي ذهب إليه الديمقراطيون والليبراليون وأنصار "العولمة" في التأثير السلبي على الشعب الأمريكي في شركاته وعماله. وما كان أكثر خطورة على الدولة أنها باتت مفتوحة على مصراعيها للمهاجرين واللاجئين وهو ما سبب خللا اجتماعيا كبيرا، مضافا إلى عمليات الهجرة الجماعية للشركات للتصنيع في دول أخرى وفي مقدمتها الصين. كان الرئيس الجديد صريحا مع الشعب الأمريكي إلى أقصى درجة أثناء الحملة الانتخابية السابقة، والتي خاضها في مواجهة سبعة عشر مرشحا جمهوريا فاز عليهم جميعا بترشيح الحزب، ومن بعده فاز فيما كان مفاجأة كل أجهزة الإعلام واستطلاع الرأي العام الأمريكية عندما انتصر على المرشحة الديمقراطية وأحد أهم سدنة الحزب الديمقراطي هيلاري كلينتون. وثبت أن هذه الانتصارات كان وراءها فكر مختلف عما كان ذائعا حتى بين الجمهوريين التقليديين في الحزب؛ فالرجل وضع خطا أحمر أمام تدخل الدولة المتزايد في حياة المواطنين، والاعتماد الزائد من قبل الأوروبيين واليابانيين على الولايات المتحدة في أمور الدفاع عن العالم الغربي. كان مؤتمر الحزب الجمهوري نوعا من كشف الحساب، ووجهة النظر الأخرى المقابلة لما ردده الديمقراطيون خلال الأسبوعين الماضيين.
الجانب الاقتصادي أخذ قسطا كبيرا من المؤتمر، لأن ترامب كان لديه ما قدمه خلال الأعوام الثلاث الأولى من ولايته حينما وصل الاقتصاد الأمريكي إلى أكثر درجاته غنى مقاسا بما وصلت إليه البورصات أو ارتفاع مستويات التشغيل والعمل وتدني مستويات التضخم. وظهر أن الديموقراطيين بالغوا كثيرا في دور أوباما في تحقيق الانتعاش الاقتصادي بعد الأزمة الاقتصادية العالمية؛ فحقيقة الأمر أن الخروج من الأزمة بالسياسات المالية الديمقراطية لم تكن وحدها وراء ما جرى من انتعاش للاقتصاد الأمريكي خاصة في ولاية ترامب. فما حدث أن الرئيس الجمهوري قام بأكبر عملية لرفع القيود عن الاقتصاد الأمريكي عرفت في التاريخ المعاصر؛ وكانت النتيجة ازدهارا غير مسبوق. أزمة الكورونا رغم قسوتها الشديدة وما أنزلته بالاقتصاد من تراجعات، فإن صلابة الاقتصاد ظهرت خلال الشهور الأربع الماضية حينما بدأ الاقتصاد الأمريكي في الخروج تدريجيا ثم باندفاع من الأزمة، فعادت البورصات الأمريكية إلى مستوياتها قبل الأزمة، وبعضها مثل "ناسداك" تجاوزها؛ وأخذت معدلات البطالة الكبيرة في التراجع بمعدلات سريعة. الجانب الاجتماعي تولاه الأمريكيون الجمهوريون من أصول أفريقية والذين وقفوا في مواجهة الديمقراطيين مؤكدين على أن الحفاظ على قوى الأمن والنظام في المجتمع ضرورة لحماية أرواح جميع المواطنين وليس المواطنين من لون بعينه.
المؤتمر كان فرصة لمناقشة السياسة الخارجية الأمريكية والحديث عن منجزاتها في العالم وفي الشرق الأوسط. ومن المعلوم أن ترامب كان أول من قام بفتح كبير في ملف علاقات الولايات المتحدة مع كوريا الشمالية ودخل معها في دائرة من التفاعلات نزعت فتيل صراع محتمل. وكذلك كان أول من اتخذ خطوات فعلية لمواجهة العدوان الإيراني على جيرانها، وما تستخدمه من أساليب الابتزاز والتهديد والتصعيد في مجال سباق التسلح خاصة الصواريخ والطائرات المسيرة، وربما الغش فيما يتعلق بإنتاج الأسلحة النووية. ولم تكن هناك صدفة أن الرئيس الأمريكي رغم ذلك كله قد وعد الشعب الأمريكي بالتوصل إلى اتفاقيات مع كوريا الشمالية وإيران، ليست على طريقة الديمقراطيين التي تسمح بترك مساحات وثغرات تسمح لدول معتدية بالاحتفاظ على أسلحتها وتهديد جيرانها.
المؤتمر بالطبع شمل ما هو أكثر، ولكن ربما كانت النقطة الجوهرية بالنسبة للرئيس ترامب وفرصه في الحصول على فترة رئاسية أخرى تنبع من حقائق تاريخية مضافة إلى الأخرى الواقعية، التي أعطته القدرة على المواجهة الصريحة لمنتجات العولمة. تاريخيا فإن ترامب لم يكن مجرد رئيس أمريكي جاء نتيجة المثابرة الانتخابية، فهو قد حصل على المنصب من خلال عملية صعبة للحصول على ترشيح الحزب الجمهوري، ومن بعده الدخول في معركة ليس مع مرشحة حزب وإنما مرشحة المؤسسة الأمريكية السياسية التي تكونت خلال العقود الماضية. ولكن ما لا يقل أهمية عن ذلك فهو أن الرئيس ترامب كان يعبر عن موجة عالمية صاعدة ليس فقط في الولايات المتحدة، وإنما في العديد من دول أوروبا وأمريكا الجنوبية وآسيا، وجميعها وقفت في صف مواجهة "العولمة" ونتائجها السلبية التي تتحدى المصالح الاجتماعية والاقتصادية والأهم الثقافية للدول الوطنية في العالم. هذ النوعية من الموجات التاريخية لا تذهب بعيدا وبالسرعة التي يتوقعها خصومها ما لم يكن العالم قد تعرض لسلسلة من الإصلاحات الجذرية. موقف ترامب من منظمة الصحة العالمية، وعمل المنظمات المتعددة الأطراف في العالم مثل أول تحد عالمي للبيروقراطية الدولية، التي خلقت عالما خاصا بها متحيزا لإدارة الفقر والمرض العالميين، وليس إدارة الثروة التي تؤدي إلى تخريج الفقراء من الفقر في بلادهم وليس من خلال تحولهم إلى مهاجرين ولاجئين. وعد الرئيس ترامب لسنواته الأربع التالية ربما لن تكون فقط في إعادة تنظيم الولايات المتحدة، وإنما إعادة تنظيم العالم أيضا.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة