يبقى العراق يمثل أهميةٌ استراتيجية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة من أجل ضمان الاستقرار في المنطقة.
لم يعلق العراقيون آمالا كبيرة على زيارة الكاظمي لواشنطن لأنهم يدركون أنها مجرد زيارة بروتوكولية ولا يمكن أن تضع حدا للمشكلات العويصة التي يعاني منها العراق، فقد سبقتها زيارات عدد من رؤساء الوزراء السابقين من دون أن تثمر أو تعطي نتائجها. ربما اختلفت زيارة الكاظمي هذه بأنها اكتست الطابع الاستراتيجي الأول من نوعه من حيث التركيز على ملفات الاستثمارات.
وعلى الرغم من ذلك، تبقى العلاقات العراقية الأمريكية تدور في حلقة مفرغة، لأن الإدارة الأمريكية لا تزال تنظر بعين الريبة والشك إلى المليشيات العراقية الموالية لإيران، ومن هنا يتصدر الملف الأمني المشهد. وهذا من شأنه أن يعطل الملفات الأخرى وخاصة الاستثمارات والاقتصاد، لأنها مرتبطة بهذا الملف الحساس والذي لم تجد القيادة العراقية له أي حلول في الأفق، وربما يبقى الكاظمي نفسه عاجزا عن تحقيق ذلك رغم خطواته في تحريك هذا الملف، فلا يزال مسلسل الاغتيالات جاريا حتى أثناء زيارته لواشطن.
والسؤال المطروح: هل يمكن أن تتبلور علاقة استراتيجية بين بغداد وواشنطن في ظل كل هذه الظروف التي ذكرناها؟
لا يزال العراق يشكل للولايات المتحدة "صداعا" لا علاج له، إذ لم تكن تتوقع واشنطن يوما أن تتمكن إيران من بسط نفوذها على العراق من خلال أذرعها ومليشياتها الموالية. فالجغرافيا تغلب التاريخ كما تقول السياسة. وفي هذا المجال، لا يمكن أن تقام أية علاقات استراتيجية بين الولايات المتحدة والعراق إلا بالتخلص من المليشيات الموالية لإيران واستعادة هيبة الدولة، وهذا ما يسعى إليه فعلا مصطفى الكاظمي، لكن القوى المحيطة به من الأحزاب الدينية والمليشيات أكبر منه في التأثير على الشارع. وتدرك الإدارة الأمريكية أن الكاظمي رغم نيته وتصريحاته في استعادة هيبة الدولة، يبقى رجلا لا سند له، بل وتهدده الفصائل المسلحة كما حصل في الآونة الأخيرة.
أما ما يخص الملفات التي حملها الكاظمي إلى واشنطن فهي: مجالات الأمن، ومكافحة الإرهاب، والاقتصاد، والطاقة وغيرها. وما حققته هذه الزيارة الهامة إلى واشنطن هو التوقيع على عدد من الاتفاقيات في مجال استثمار الشركات الأمريكية، التي لا تستطيع أن تعمل في الظروف المضطربة التي تسود العراق، الذي يعاني من قضية الديون وعجز الموازنة، وقضية الكهرباء ونقص الغاز وجائحة كورونا، وتبعيته لإيران في مجالات الزراعة والاقتصاد والصناعة والطاقة.
وتبقى العلاقات الاستراتيجية بين البلدين تخضع إلى أوضاع الانتخابات الأمريكية وكذلك نجاح أو فشل الكاظمي في تنظيم الانتخابات المبكرة، وفيما لو تكون نزيهة وعادلة وبعيدة عن تأثيرات الأحزاب الدينية ومليشياتها، وكذلك استمرار التظاهرات الاحتجاجية رغم تأكيدات الكاظمي على نهج أسلوب جديد في التعامل مع جميع هذه الملفات.
وهنا السؤال: هل يتمكن الكاظمي من تجريد الميليشيات من سلاحها؟ واستعادة هيبة الدولة التي من خلالها يتمكن من إقامة علاقات استراتيجية ليس مع الحليف الأمريكي بل مع جميع دول العالم؟
يبقى العراق يمثل أهميةٌ استراتيجية كبيرة بالنسبة للولايات المتحدة من أجل ضمان الاستقرار في المنطقة ومدّ الاقتصاد العالمي بالنفط والحدّ من خطر اندلاع الحرب المفترضة مع إيران. كما أن الانسحاب الأمريكي من العراق من شأنه أن يمكّن النظام الإيراني من مّد نفوذه وأذرعه إلى البلدان المجاورة، ويؤثر على الأمن القومي الأمريكي وخاصة بعد إعلان إيران مؤخرا عن إطلاق صواريخ يصل مداها إلى ما بين ألف وألف وأربعمئة كيلومتر. ولهذا تسعى الولايات المتحدة إلى تقديم الدعم والتدريب إلى الجيش العراقي من أجل إضعاف المليشيات العراقية الموالية لإيران.
لكن التغول الإيراني وصل مداه عندما حولت العراق إلى سوق مهم لسلعها وخدماتها، وأدى ذلك إلى الإضرار بالسوق العراقية والإنتاج المحلي، بل وأدى إلى انقسامه وعدم استقراره، حيث ساهمت المؤسسات السياسية العراقية التي أُنشئت في أعقاب الغزو الأمريكي في صياغة هذه الأوضاع.
طرح الجانب الأمريكي جملة من القضايا على الجانب العراقي منها: سلطة المليشيات، استقلالية العراق في مجال الطاقة عن إيران، تقليص الطائفية، الخلاص من الفساد في مفاصل الدولة، عدم الاعتماد على النفط كليا في الاقتصاد أمام تراجع الأسعار، والملف الأمني وتداعياته وغيرها من الأمور.
تدرك الولايات المتحدة جيدا بأنها ما تزال بحاجة إلى العراق استراتيجيا من أجل احتواء الأخطار التي تثيرها كل من إيران، وتركيا، والحد من طموحاتهما الإقليمية على حساب المنطقة.
وفي النهاية، يبقى ملف حرية الرأي والمظاهرات واغتيال المتظاهرين السلميين من الملفات الساخنة التي تعكر صفو العلاقات العراقية الأمريكية، بل وتضعف من سيرها في الطريق الصحيح.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة