الثورة كامنة في رحم القوى والتكتلات السياسية نفسها، وهي تخرج من الخراب لتقول الحقيقة بأن الطائفية لم تعد تقوى على الصمود.
لا تُحكم الشعوب بالأيدلوجيات الضيقة والأفكار المتعصبة، فقد شهد التاريخ تحررها من هذه الأوهام منذ تطبيق مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة، ولكن ما زالت أوهام القرن السادس تهيمن على رؤوس الطبقة الحاكمة في كل من العراق ولبنان وغيرهما، وأصبحت الآن جزءا من الماضي.
كيف تغلغلت الجماعات الدينية والمحاصصة الطائفية إلى نسيج الفئات الشعبية وصاغت عقلها وسلوكها، وأصبحت تعمل ضد مصالحها الحيوية؟ هذا تساؤل مشروع عن الفقر والاغتراب والظلم الذي يعيشه الناس في هذين البلدين، حيث قفزت إلى واجهة السلطة طبقة سياسية جاءت محملة بالأوهام والخرافات التي لم تتمكن من الصمود في وجه تطور المجتمع واستحقاقاته. ثم بدأت هذه الأوهام والخرافات تتصدع شيئًا فشيئًا بإشاعة العلوم التي تسعى هذه الطبقة السياسية المهيمنة في البلدين إلى حجبها عن شعوبهم، من خلال عدم تخصيص أي جزء من الناتج القومي لهذا الميدان الحيوي في ظل غياب مراكز الأبحاث والعلوم والدراسات أو قلة وجودها.
كانت الستينات من القرن الماضي مرحلة التنوير في العالم العربي، لكنها نكصت عن أداء مهماتها بظهور الحركات المتطرفة وهيمنتها على القرار السايسي، ولكن بوادر التنوير والثورة على أوهام الطائفية السياسية بدأت في العراق ولبنان في الآونة الأخيرة، معلنة هزيمة الطائفية والمحاصصة.
أثبتت التظاهرات الاحتجاجية الأخيرة في لبنان والعراق أنها تجاوزت الطائفية، بعد أن واجهت تيارات الإسلام السياسي هزائم متعددة في مصر والسودان والجزائر، كانعطافة جذرية في التاريخ، لكنها بحاجة إلى دعائم علمية تعمل على إنقاذ الشباب من الأوهام من خلال التركيز على الفكر العلمي، وطرد الظلام الذي يعشعش في نفوسهم والانفتاح على عصر العلوم والتقنية والتكنولوجيا.
الثورة كامنة في رحم القوى والتكتلات السياسية نفسها، وهي تخرج من الخراب لتقول الحقيقة بأن الطائفية لم تعد تقوى على الصمود والحياة أمام إرادة الشعبين العراقي واللبناني. لذلك نرى بأن الحراك الشعبي الشبابي عفوي لا قيادة معلنة له، وهذا ما يجعل انتشاره أمرًا حتميًا، وهو ما أربك الطبقة السياسية في النظامين اللذان أثبتا فشلهما في الحكم. وقد تجاوزت الثورة الاحتجاجية في كلا البلدين المحاصصة الطائفية التي يعتمد عليها النظامان القائمان.
تعود انتفاضة الشعبين العراقي واللبناني إلى تراكم المشكلات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي لم تجد حلولا نتيجة للصفقات والمساومات بين المكونات، وهذا هو جذر المشكلة الجوهرية. ففي لبنان يهيمن حزب الله على القرار اللبناني، وفي العراق تهيمن الأحزاب الدينية على القرار العراقي، وكلهم تتحكم بهم إيران.
تتميز الانتفاضة الاحتجاجية في العراق ولبنان برفض أيديولوجيا الطائفية والمحاصصة، ومبدأ المكونات الذي ترسخ في هذين البلدين من أجل تقاسم النفوذ، يقودها شباب يتمتعون بعقول وطنية نظيفة، مؤمنة بنظام سياسي جديد يولد من رحم التناقضات والأوهام. لكن ما يؤسف له أن هذه الاحتجاجات لا يرافقها أو يتعاطف معها مثقفون يحملون فكرها كما هو الحال في الثورات الاحتجاجية في العالم، على سبيل المثال، ثورة الطلبة في 1968 التي وقف معها ونظّر لها عدد كبير من المثقفين والكتّاب والمفكرين.
لم يعد الخطاب الديني الطائفي له تأثيراته الأولى التي كانت قبل عقدين من الزمن، لأنه أثبت فشله في كلا البلدين، ولأن التظاهرات الاحتجاجية شقت طريقًا آخر، بعيدًا عن الفساد والطائفية والمحاصصة، إنها رؤية جديدة، غير معزولةٍ عن الحراك الشعبي في العالم العربي.
هل ما تقوم التظاهرات الاحتجاجية يُبشر بفكر جديد؟
إنه الوعي المتنامي عند الشباب بعيدا عن التأثيرات التي جاءت بها الطبقة السياسية في هذين البلدين. وقد أثبت أن الطائفية السياسية فيهما تعاني من انحسار كبير وهي إلى فشل ذريع على جميع الأصعدة. استطاع هذا الوعي أن يتجاوز المفاهيم الضيقة التي جاءت بها الطبقة الحاكمة وقيمها بعيدًا عن الإملاءات المذهبية الضيقة. فهم أحدثوا انقلابًا على المفاهيم التي بشرت بها الطبقة الحاكمة الموالية لإيران، رافضين هيمنة الطائفية، والوضع الاقتصادي المتفاقم في كلا البلدين، لأن هذه الطبقة السياسية لم تتمكن من تقديم الحلول لمشاكل الشباب الحيوية خاصة بعد تفجيرات مرفأ بيروت وما يشهده العراق من هزات سياسية.
تهدف التظاهرات الاحتجاجية في كل من العراق ولبنان إلى استشراف آفاق المستقبل بعيدا عن الفساد وتردي الأوضاع الاقتصادية، وهذا ما سيولّد ظهور حركة فكرية ثقافية تمتد إلى الفنون والآداب العلوم لأنها ترسم خارطة المستقبل.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة