يخيل إلى أردوغان أن الرهان على إغلاق قواعد الناتو سوف يغري القيصر بوتين لينسى أو يتناسى مواقف تركيا المناهضة لمصالح الأمن القومي الروسي
هل أضحى خروج تركيا من حلف الناتو قدرا مقدورا في زمن منظور؟ يكاد المراقب للشأن التركي أن يوقن بأن حالة من التهور الاستراتيجي تنتاب الآغا العثماني أردوغان، حالة تدفعه إلى تحركات غير منطقية أو عقلانية، ما جعل الداخل التركي ينتفض ضده، وما يعني أيضا أن النهاية على الأبواب، وأن تركيا تستحق الأفضل.
مثل دون كيشوت يسعى أردوغان لمحاربة طواحين الهواء، ويخيل إليه أنه قادر على فتح جبهات متعددة جغرافية وديموغرافية، فينطلق من سوريا بداية، إلى أن يصل إلى ليبيا في نهاية الأمر، وهو بين هذه وتلك يتلقى الصفعات إقليميا ودوليا، بعد أن بات منبوذا من محيطه المحلي، وتاليا من القوى الدولية التي تعاونت لعقود مع تركيا حين كانت سياساتها توصف بالتعقل وسياسيوها بالاتزان والحصافة في اتخاذ قراراتهم.
تنسى تركيا أو تتناسى أمرين غاية في الأهمية عند تقدير وتحديد مصير أي دولة، الأول موصول بوزنها السياسي وسط العمالقة، والثاني له علاقة جذرية بما يسمى ميزان الانتباه العسكري، أي ما هي قادرة على فعله أو عدم فعله وسط الكبار
أحد الأسئلة العريضة التي طرحت في سماوات السياسة العالمية الأعوام الأخيرة: "هل بات لتركيا موقع أو موضع داخل حلف الناتو، أم أنه قد حان الموعد للافتراق؟".
المؤكد أن ما ارتكبه أردوغان من أخطاء استراتيجية تجاه حلف الأطلسي قد تراكم إلى حد غير مسبوق، كما أن خطاياه ضد أوروبا باتت لا تغتفر وآخرها التهديدات المستمرة والمستقرة بفتح حدوده للاجئين والمهاجرين ليغرقوا الدول الأوروبية، عطفا على ما ذهب إليه من قبل بشأن ترحيل الدواعش الأوروبيين إلى الدول المنتمين إليها.
باتت تركيا حجر عثرة في طريق دول الأطلسي، ولم يعد قادة الناتو على بينة مما إذا كان أردوغان صالحا ليمضي قدما في طريق تحقيق أهداف الحلف، والذي تواجهه صعاب كبرى في التعاطي مع شرق آسيا لا سيما الصين وروسيا، أم أن تركيا من ورائه باتت مهددة، بل تمثل كعب أخيل في جسد الناتو، لا سيما بعد سعيها للحصول على أسلحة روسية متقدمة من عينة الصواريخ "إس 400"، وربما طائرات السوخوي المعدلة وفي الوقت ذاته تسعى جاهدة للحصول على طائرات إف 35 الأمريكية.
آخر الجولات الأردوغانية التي أقلقت الناتو بشكل كبير الأيام الماضية التصريحات التي هدد فيها بإغلاق قاعدتي إنجرليك وكوريجيك الأمريكيتين في بلاده "إذا لزم الأمر" على حد تعبيره، الأمر الذي كان وزير خارجيته "مولود تشاوش أوغلو"، قد تطرق إليه هذا الأسبوع مشيرا إلى أن قرار إغلاقهما يمكن أن يطرح على الطاولة ردا على أي عقوبات قد تفرضها الولايات المتحدة على تركيا.
ولعل السؤال الرئيسي الواجب طرحه في هذا السياق: "من هو الأكثر تضررا حال إغلاق القاعدتين المستخدمتين من قبل تركيا أيضا وليس دول حلف الناتو فقط؟
تنسى تركيا أو تتناسى أمرين غاية في الأهمية عند تقدير وتحديد مصير أي دولة، الأول موصول بوزنها السياسي وسط العمالقة، والثاني له علاقة جذرية بما يسمى ميزان الانتباه العسكري، أي ما هي قادرة على فعله أو عدم فعله وسط الكبار.
في هذا السياق تخسر تركيا أي رهانات على إزعاج الناتو، وتمثل عملية إغلاق القاعدتين في وجه الناتو خسارة كبرى لها، لا للآخرين، أما السبب الواضح للعيان بداية الأمر فهو أن الأوضاع تغيرت وتطورت عما كان عليه الحال في زمن الحرب الباردة، لا سيما وأن نوعية المواجهة العسكرية على الأرض تتقلص يوما تلو الآخر لصالح الفضاء، وعسكرته، وما يجري هناك من سباق تسلح أولا.
الأمر الآخر هو أن المعروض من قواعد على الناتو وحلفائه في المنطقة كثير جدا، ولعل الآغا العثماني قد نسي أو تناسى أنه وقت إنجرليك لم تكن هناك قاعدة العديد أو السيلية في قطر، كما أن هناك فرصا واسعة لقواعد كبرى للناتو في الكويت والأردن والبحرين وغيرها من دول المنطقة.
علامة استفهام أخرى: "هل يظن السلطان التركي أنه بطرد الناتو من القاعدتين سوف يتمكن من تحسين علاقات بلاده مع موسكو؟" بمعنى أن اللعب التركي على المتناقضات من واشنطن إلى موسكو سوف يحسن موقعه وموضعه على خارطة الشطرنج الإدراكية الأممية الآنية.
تدرك تركيا في واقع الأمر أن تقاربها مع موسكو تقارب مؤقت مرتبط بمصلحة آنية، لا سيما وأن حزازات الصدور التاريخية بين البلدين أكبر وأوسع من أي توجهات توافقية براجماتية تفرضها وقائع التاريخ وحداثة القضايا والنوازل المعاصرة.
يغفل الآغا العثماني عما تقوم به روسيا العائدة من جديد إلى الساحة الدولية كالفينيق من الرماد في منطقة البحر الأسود وكيف أنها تمد نفوذها يوما تلو الآخر بقوة وعزم وحزم، الأمر الذي يعد بالنسبة للأتراك تهديدا للأمن القومي لبلادهم.
يخيل إلى أردوغان أن الرهان على إغلاق قواعد الناتو سوف يغري القيصر بوتين لينسى أو يتناسى مواقف تركيا المناهضة لمصالح الأمن القومي الروسي، وفي المقدمة منها رفض أنقرة حتى الساعة الاعتراف بصورة رسمية بضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا، والإصرار على أنها خاضعة لأوكرانيا الأمر الذي يتسق وتوجهات الناتو، ناهيك عن أن روسيا تلاحظ بعيون الصقر ما تفعله تركيا في منطقة القوقاز، ومحاولة توسيع نفوذها هناك، أما الدعم الروسي السياسي والعسكري لأرمينيا، فلا يوارى أو يدارى، ويقف على ناصية التحدي والتصدي لما تقوم به تركيا من دعم مضاد لأذربيجان.
السلطان التركي الحائر يغامر بخروجه من الناتو مرة وإلى الأبد، وهو يدرك أنه غير قادر على الوفاء بما ينذر ويحذر به، فذاكرته كما ذاكرة الأسماك، أو هكذا يدعي في مكر تاريخي يحيق دائما به، ففي 2015 حين أسقط الطائرة المقاتلة الروسية، لم يجد إلا الاحتماء من روسيا في رداء الناتو الذي عقد اجتماعا طارئا في محاولة لردع موسكو من الانتقام المباشر، وإن كانت قد فرضت على تركيا عقوبات اقتصادية لم ترفع ولو بشكل جزئي إلا في عام 2016، ولأغراض تخدم القيصر المنتصر بأكثر مما تدعم السلطان المنهار.
أيام أردوغان في القصر قليلة، وعلى غير المصدق أن يستمع إلى تعهدات رئيس الوزراء التركي السابق "أحمد داود أوغلو"، والذي أعلن نهار الخميس الماضي عن تأسيس "حزب المستقبل"، في خطوة تقلص بالضرورة من أعداد الناخبين المؤيدين لحزب أردوغان الحاكم.
أوغلو يرى أن النظام الرئاسي الجديد الذي أقرته تركيا العام الماضي ومنح أردوغان سلطات واسعة أدى إلى انهيار في المعايير الديمقراطية، وأنه حان الوقت لاستنقاذ البلاد من أنياب أردوغان.. هل هي نهاية حزب العدالة والتنمية؟
أغلب الظن أنها نهاية أردوغان كذلك.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة