اتفاق أردوغان-السراج والإرهاب في شمال أفريقيا
يعتبر كثيرون أن الاتفاق التركي مع حكومة السراج لا يهدف فقط إلى التدخل في الشأن الليبي بل إلى رفع معنويات المليشيات والجماعات الإرهابية
تحاول الدولة التركية استعادة مكانتها الدولية والإقليمية من خلال الدعم للجماعات الإرهابية، وتصعيدها إلى سدة الحكم في بعض الدول العربية والأفريقية، وذلك من خلال عدة أدوات إنسانية، واقتصادية وسياسية، ومعها تأتي الأداة التسليحية والعسكرية والأمنية، خاصة في الدول الاستراتيجية التي يمكن من خلالها تحقيق أكثر من هدف، مستغلة المشاعر الدينية، والتقاربات الأيديولوجية، والحالة الأمنية، والمراحل الانتقالية.
هذا ما تم تنفيذه في الحالة السورية، وتحاول تركيا تكرار ذلك النموذج مع الدولة الليبية، من خلال مذكرة التفاهم للتعاون العسكري والأمني التي تم توقيعها بين أردوغان وحكومة الوفاق الليبية بقيادة فايز السراج في 26 نوفمبر 2019، والذي يعد نسخة أوسع من الاتفاق الإطاري للتعاون العسكري المبرم بين الطرفين في وقت سابق، هذا إلى جانب اتفاق بحري تم توقيعه في ذات الفترة يهدف إلى تحديد الحدود البحرية بين البلدين.
وأثارت مذكرة التفاهم تلك العديد من ردود الأفعال الدولية والإقليمية، وخاصة من دول الجوار المباشر لليبيا، وخاصة مع التخوف من أن يؤدي ذلك الاتفاق إلى نقل مسلحين دواعش إلى الأراضي الليبية، أو تهديد حالة الاستقرار في حقول غاز شرق المتوسط، إلى جانب الانتفاضة العربية تجاه محاولة تركيا انتهاك سيادة دولة عربية، ويمكن رصد تأثير مذكرة التفاهم العسكرية بين تركيا وحكومة على نشاط الجماعات الإرهابية في النقاط الآتية:
المحور الأول: التعريف بمذكرة التفاهم والاتفاق البحري:
على الرغم من عمومية نصوص مذكرة التفاهم، وتضمنها مبادئ يمكن القول إنها مبادئ تكافح من خلالها تركيا الإرهاب، لكن التخوف ينبع من تعريف من هو الإرهابي، ومن ستواجهه القوات التركية، ومن ستعزز من قدراته، ومن ستزوده بالأسلحة والتدريب، ومن ستغطيه بوحدات الدفاع الجوي، أي مع أي طرف ستقف، وضد أي طرف؟
فقد نصت مذكرة التفاهم على ضرورة الحفاظ على الأمن والسيادة الليبية، وتعزيز قدرات حكومة الوفاق في مكافحة الإرهاب والهجرة غير المنظمة والجريمة، وتؤسس لمهام تدريب وتعليم، ونقل خبرات بين الجيشين التركي، والجيش التابع لحكومة الوفاق، والتعاون في تبادل المعلومات الأمنية بين الطرفين، وتغطية جميع الجوانب الأمنية.
في حين تم النص في الاتفاق البحري بين الطرفين على تحديد مناطق السيادة البحرية، وحدود المناطق الاقتصادية لكل دولة من الدولتين، بحسب الإحداثيات، وبهدف إطلاق السيادة على بعض المناطق، وهو ما يمنع بعض الدول المشاطئة، وخاصة اليونان، من توقيع وتفعيل اتفاقيات بعينها للتنقيب عن الغاز، أو تحديد حدودها البحرية كما كان متصوراً، ويؤثر على عمل منتدى الغاز الذي أسسته مصر بعضوية 7 دول بحر متوسطية باستثناء تركيا، بل ويؤثر على النشاط التنقيبي في شرق المتوسط كاملاً، وخاصة النشاط المصري، مع احتمالية المواجهة أو عدم الاستقرار في تلك المنطقة.
واعتمدت تركيا في هذا التقسيم البحري على مبدأ المناطق الاقتصادية الخالصة، والتي تحددها الأمم المتحدة والمادة 55 من قانون البحار بأنها منطقة تمارس الدولة فيها حقوقها السيادية خاصة في الاستغلال واستخدام الموارد البحرية، والتي تمتد إلى مسافة 200 ميل بحري.
وعند إعلان ليبيا في مايو 2009 حدودها البحرية ومناطقها الاقتصادية، أعلنت أيضاً أنها منفتحة مع كافة الدول لترسيم الحدود البحرية، وهو ما دفع اللواء البحري التركي "جهاد بايجي" إلى نشر كتابه "ليبيا جارة تركيا في البحر"، والذي أشار إلى أهمية ترسيم الحدود البحرية مع ليبيا لإفساد ما تخطط له اليونان وقبرص الجنوبية، والاستفادة من احتياطات الغاز في شرق المتوسط التي تقدر بنحو 3 تريليونات دولار.
مواقف دول شمال أفريقيا من مذكرة التفاهم
كان لهذا الاتفاق العديد من الأثار والتداعيات التي ترجمتها مواقف دول شمال القارة، بخاصة مع معرفة تلك الدول وقادتها بطبيعة الدور التركي في تكوين المليشيات، وتسليح الجماعات التي تدين بالفكر الإخواني المنحرف عن الإسلام، والتي تناهض الدولة الوطنية، وما يمكن أن يحمله ذلك من تداعيات على دول الجوار، وهو ما ظهر في الموقف المصري، الذي تم ترجمته من خلال الاتصالات، والزيارات، واللقاءات بين مصر وعدد من الدول الأوروبية، ومع الولايات المتحدة، وعدد من الدول العربية التي لا تزال تهتم بالقومية العربية والسيادة الوطنية للدول التي تضمها هذه القومية، وخاصة بعد إعلان أردوغان عن وصول عسكريين إلى ليبيا من جنسيات مختلفة، ونجاح الجيش الوطني الليبي في تحرير سرت.
وحاول أردوغان شق الصف العربي من خلال زيارة مسؤولين أتراك إلى تونس والجزائر، رغبة إظهار أن هناك تنسيقا ما على التدخل التركي في ليبيا، خاصة مع وجود حركة النهضة الإخوانية على رأس البرلمان التونسي، ومع طبيعة ما تواجهه المرحلة الانتقالية في الجزائر، ووجود جماعات تركية داخل الدولة الجزائرية، وهي المحاولات التي باءت بالفشل، وتم رفض التدخل التركي في الدول العربية، واعتبرت تونس والجزائر أن الحل السياسي هو الأفضل، وعلى إثر ذللك عُقد في القاهرة يوم 8 يناير 2020 اجتماع على مستوى بين مصر وعدد من الدول الأوروبية على رأسها اليونان، وإيطاليا، وفرنسا، وهو الاجتماع الذي اعتبر اتفاقية أردوغان مع السراج باطلة، وهو نفسه موقف البرلمان الليبي المنتخب.
ومع كل هذه المواقف، والهزائم التي تلحق بالمليشيات المدعومة من قبل تركيا في الداخل الليبي، وما يتكشف من رفض لأجهزة الدولة الليبية لهذا الاتفاق، لا تزال تركيا وحكومة السراج تدافعان عن هذا الاتفاق، رغبة في خدمة المشروع الإخواني في واحد من آخر معاقله، ورغبة في الاستفادة من غاز ليس من حق تركيا في إعطاء قبلة الحياة لمشروع السلطنة التركية الإخوانية، والتي كانت تقوم على تولي ولي إخواني لكل دولة عربية، يتبع مباشرة الولي التركي الإخواني، واستبدال الصفة العثمانية بالصفة الإخوانية.
الاتفاق ونشاط الجماعات الإرهابية.. مصادر التهديد
يعتبر كثيرون أن الاتفاق التركي مع حكومة السراج لا يهدف فقط إلى التدخل في الشأن الليبي، وتهديد عدد من دول الجوار من خلال دعم جماعات إرهابية، ونقل مقاتلي داعش، بل يهدف كذلك إلى رفع معنويات المليشيات والجماعات المسلحة التي لقت العديد من الهزائم على يد الجيش الليبي، واستخدامها في تقوية الموقف التركي في المفاوضات حول غاز شرق المتوسط، وهو ما يجعله عنصرا مؤثرا على أمن دول شمال أفريقيا، وجنوب أوروبا من خلال الجماعات التي يمكن استخدامها ودعمها، ويمكن أن يكون مصدر تهديد من خلال:
1. نقل إرهابيي داعش من سوريا: وهي عناصر ترى في مصر ودول أوروبا أعداء لها، وترى في العديد من الدول العربية معوقاً أمام مشروع الخلافة الإسلامية في ثوبها الإخواني، ومن الطبيعي أن تضع كل هذه الدول ومصالحها في الدول الأوروبية وأمريكا محل استهداف.
2. استخدام الأجواء الليبية الجوية والبرية والبحرية للتأثير على عدد من الدول: خاصة التي تقع في الجوار المباشر، ودعم الجماعات المسلحة التي تؤثر على استقرار تلك الدول، وهو ما يهدد الدول العربية، ودول الساحل الأفريقي.
3. هدم الجيش الوطني الليبي: وإتاحة المجال للمليشيات للسيطرة على دولة استراتيجية مثل الدولة الليبية، وتوفير ساحة لممارسة نشاط تلك الجماعات.
4. قاعد عسكرية تركية في المستقبل: يعتبر من الأهداف الاستراتيجية في الفكر الأمني التركي أن تتخذ من الأراضي الليبية مستقراً لقاعدة عسكرية، وهو ما سيمكنها من التأثير على الأمن القومي لعدد من الدول، ودعم الجماعات والتنظيمات الإرهابية في دول أفريقية وعربية من ناحية أخرى.
5. منتدى ومشروعات غاز شرق المتوسط وخط الغاز لأوروبا: تحاول تركيا من خلال كافة تلك التحركات التأثير على سبل الانتفاع بالغاز الطبيعي في البحر المتوسط، إلى جانب محاولة خدمة مشروعها الأيديولوجي الإخواني، وهو ما دفعها لترسيم الحدود البحرية مع ليبيا، بطريقة تخالف القانون والاتفاقيات والأعراف الدولية.
6. دعم الجماعات الموالية من خلال نقل سلاح أو عمليات تدعم دورها: وهو ما قامت به تركيا مع المليشيات الموالية لحكومة الوفاق، ويمكن أن يتسع مجاله وأنماطه، خاصة مع الهزائم التي تلحق بهذه المليشيات، وتقدم الجيش الوطني الليبي نحو طرابلس.
7. شد أطراف نظم سياسية قائمة بما يؤثر على خططها التنموية: خاصة النظام المصري، الذي بدأت ملامح تجربته تظهر وتؤكد أنه على الطريق الصحيح، وتحاول تركيا أن تحبط تلك التجربة، أو أن تستدرج النظام المصري نحو مواجهة وحرب تعطل الخطط التنموية، وتتيح فرصة لعودة الجماعات الإرهابية إلى هذه الدولة.
8. محور جذب لأبناء الجماعات من الدول وتكوين بؤرة تأثير على الحدود: وخلق بديل مكاني لهذه الجماعات عن سوريا والعراق ليصبح شمال أفريقيا هو المقر الجديد للجماعات الإرهابية، مع الظهير الصحراوي الأفريقي في منطقة الساحل الأفريقي، وهو ما سيؤثر على الأمن القومي للعديد من الدول العربية والأفريقية.
9. إضعاف الدولة الليبية: بما يسمح للمرتزقة والمهاجرين غير الشرعيين ومن يعملون في الجريمة المنظمة بالتدفق إليها، وجمعيهم سيتم استخدامهم لخدمة المشروع التركي في تكوين مليشيات، أو التأثير على دول الجوار، أو التأثير على الجنوب الأوروبي.
10. نهب الغاز والبترول الليبي، والتأثير على توازن سوق البترول الدولي، بما يسمح له ليس فقط التأثير على دول الجوار المباشر لليبيا، بل التأثير على كافة الدول المصدرة للبترول والغاز، واستخدام فائض تلك الثروات في تمويل الجماعات الإرهابية.
11. ساحة مواجهة جديدة مع دول ترغب في استعادة الدولة الليبية: منها دول خليجية ودول أفروعربية، وتحاول تركيا إثبات أنها من القوى المؤثرة في التوازنات الإقليمية، وفي التطورات الداخلية في الدول العربية، وأن مشروعها الاستيطاني لا يزال قادرا على التمدد.
12. الانشقاقات الداخلية الليبية وتأثيراتها الإرهابية: والتي بدأت في صفوف مؤسسات الدولة الليبية التي لا تزال تعمل، وتأثير ذلك على الجبهة الداخلية وعلى سبل مواجهة الجماعات الإرهابية.
سبل مواجهة التغلغل التركي في الشأن الليبي
يحتاج التدخل التركي في الشأن الليبي إلى العديد من الأدوات التي يمكن تفعيلها لمواجهته، وللتخفيف من آثاره، لعل من أهم تلك الأدوات:
-تكوين جبهة إقليمية ودولية رافضة لذلك التدخل، وتوضيح الآثار والأهداف الفعلية التي تحرك تركيا نحو ليبيا.
- العمل على التوعية الدولية والإقليمية بمخاطر هذا التدخل، وعدم قانونية الاتفاقات التي تعقدتها حكومة السراج مع تركيا.
- تكوين جبهة من دول الجوار ترفض أن تستخدم تركيا أرضها في احتلال الأراضي الليبية.
- دعم الجيش الليبي الوطني، ومحاولة بذل جهد لرفع حظر التسليح عنه، حتى يستطيع مواجهة المليشيات.
- توفير الحماية اللازمة لمشروعات غاز المتوسط، وهي حماية قانونية، وحماية عسكرية.
- العمل على تقوية مؤسسات الدولة الليبية، بما يمكنها من مواجهة هذا الاحتلال التركي.
- استصدار قرارات أممية، من الأمم المتحدة والجمعية العامة، ومؤسسات أفريقية، ومن المؤسسات العربية والإسلامية التي تدين هذا التحرك وتوضح حقيقة نواياه.
- العمل على فصل ليبيا عن الساحل الأفريقي في تحرك الجماعات الإرهابية، بما يمنع تلك الجماعات داخل ليبيا من مصادر التمويل البشري.
في النهاية يمكن القول إن التحرك التركي للتأثير على الأمن الليبي، ودعمه للجماعات الإرهابية لن يتوقف عند هذا الحد، لن تكون ليبيا هي المحطة الأخيرة، فما يحرك أردوغان ليس المصلحة التركية، إنما مصلحة إخوانية تعبر عن مشروع فكري يسعى أردوغان إلى القيام بجزء مهم فيه، يستهدف التهام الدول العربية، ووضعها تحت لواء السلطنة التركية الإخوانية بثوبها الأردوغاني.