الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تسلق موجة الاضطرابات التي يشهدها محيطه الإقليمي ولم يترك فرصة أو مناسبة لإظهار نفسه كزعيم بل سلطان أيضا.
في كل مكان وزمان وعلى مرِّ التاريخ يحاول البعض تعويم أنفسهم وبناء مجدهم، لا سيما الحكام الباحثين عن صناعة أسطورتهم الخاصة وتقديم أنفسهم كرموز وشخصيات تاريخية على مبدأ (التاريخ يكتبه الأقوى) ليخطوا فترات ولاياتهم كما شاؤوا لها أن تكون، ولكن هذا في زمن مضى أما اليوم فلا تخفى الحقيقة على المتمحص والمدقق والقارئ المتمكن، ففي ظل الثورة التكنولوجية والانتشار الواسع للأخبار والحقائق صوتاً وصورة باتت هذه الألعاب مكشوفة إذا استطعنا الربط بينها.
من هذه الشخصيات على سبيل المثال لا الحصر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي تسلق موجة الاضطرابات التي يشهدها محيطه الإقليمي (العربي) ولم يترك فرصة أو مناسبة لإظهار نفسه كزعيم بل سلطان أيضاً، معتمدا بذلك على عنصر الدين بشكل رئيس، خاصة أنه ينتمي بمفهومه العقائدي لتنظيم "الإخوان المسلمين" الذي ينادي بقيامة ما يُطلق عليه مصطلح "الأمة "على حساب أمن الأوطان واستقرارها.
السعي الحثيث للرئيس التركي نحو القيادة جعله يطرح نفسه غير مرة وإن بطرق غير مباشرة على أنه حامي حمى المسلمين، المدافع المنافح عن المضطهدين، المؤمن باستقلال وحرية الشعوب، هذا ما يسعى أردوغان لإظهاره للعالمين القريب المتمثل بالداخل التركي والبعيد المحيط الإقليمي
السعي الحثيث للرئيس التركي نحو القيادة جعله يطرح نفسه غير مرة وإن بطرق غير مباشرة على أنه حامي حمى المسلمين، المدافع المنافح عن المضطهدين، المؤمن باستقلال وحرية الشعوب، هذا ما يسعى أردوغان لإظهاره للعالمين القريب المتمثل بالداخل التركي والبعيد المحيط الإقليمي العربي منه على وجه الخصوص، لبناء حلمه بالسلطنة.
ثلاثة دعائم يرتكز عليها أردوغان للوصول إلى مبتغاه:
المرتكز الأول والرئيسي هو لبوس الدين، وهو القناع الذي يجيد ارتداءه أردوغان مستغلاً القضايا التي تلامس قلوب الشعوب المسلمة ولا سيما القضية الفلسطينية والقدس التي هي من أقدس أقداس المسلمين، فلا يترك الرئيس التركي مناسبة إلا وأصابعه تشير إلى القدس وتمكنها من قلبه وضرورة تحريرها وفك أسرها من براثن الصهاينة قتلة الأطفال ورعاة الإرهاب الأول، كما يصفهم بخطابات تجعل سامعها من العرب والمسلمين يرى فيه صلاح الدين لهذا القرن، ولكن حقيقة الأمر أن تركيا أردوغان تقيم علاقات لا حدود لها مع إسرائيل، وإن كانت قد تأزمت -شكلياً- بعد مقتل مواطنين أتراك في حملة أسطول الحرية عام 2010، تطالعنا اليوم وسائل إعلام إسرائيلية بأن العلاقات التركية الإسرائيلية ستعود قريباً إلى سابق عهدها، فقد نقلت صحيفة (يديعوت أحرونوت) العبرية منذ أيام عن مصادر دبلوماسية وصفتها برفيعة المستوى أن تركيا وإسرائيل ستتبادلان السفراء بعد فترة الأعياد اليهودية، وأن الخارجية الإسرائيلية نشرت إعلاناً لتعيين سفير إسرائيلي جديد في تركيا اعتباراً من صيف 2019، أما على الصعيد الاقتصادي وعلى الرغم من التصريحات الأردوغانية بضرورة مقاطعة إسرائيل انتصاراً للدين والمقدسات تطالعنا النسب الاقتصادية والأرقام الإحصائية التي لا تقبل التشكيك، بأنه منذ وصول أردوغان إلى سدة القرار التركي ارتفعت نسب التبادلات الاقتصادية والتجارية، وحسب الإحصاءات الصادرة عن وزارتي التجارة في البلدين فقد بلغ حجم التبادل التجاري بين تركيا وإسرائيل بين عامي 2002-2017 إلى 2.5 ضعفاً، كما ارتفعت الصادرات بواقع ثلاثة أضعاف والواردات بواقع الضعفين تقريباً 1.8 عما كانت عليه من قبل، أرقام تكشف عدم صدقية التصريحات والخطابات التي يتباهى بها "الزعيم التركي" بين حين وآخر.
المرتكز الثاني هو القناع الإنساني الذي يصرخ عبره أردوغان بأعلى صوته من أجل نصرة المظلومين، ومن ذلك قضية اللاجئين السوريين الذين يتباكى عليهم ليل نهار، وفي الواقع لم يكن هؤلاء سوى ورقة ضغط يبتز بها الدول الأوروبية بعيدا عن الوازع الإنساني، بل كانت المصالح السلطوية هي البوصلة، فبعد استقبال أردوغان لما يكفي لسياسته من اللاجئين لم تعد الحدود التركية مفتوحة أمام لاجئ جديدٍ وإن كان الموت يطارده، بل صارت خط موت قضى عليه مئات اللاجئين نحبهم برصاص الجندرمة وحرس الحدود.
المرتكز الثالث يتمثل بدفاع "السلطان" عن حرية الشعوب وحقوقها في التعبير ومعارضة أنظمة الحكم في دولها، وهذا مسموح وفق سياسية حزب العدالة والتنمية الذي يترأسه أردوغان خارج الحدود التركية، بينما الداخل لا يمكنه ممارسة هذه الحقوق، ولعلّ العدد الكبير من السجناء الأتراك من ضباط وسياسيين ومعارضين وصحفيين ورجال أعمال خير دليل على العنف المتبع من قبل حكومة أردوغان باتجاه شعبها، وتظهر حجم التضليل الكبير الذي يسوق له رجال الرئيس التركي وداعموه المؤدلجون بأن تركيا تعيش حالة من الديمقراطية غير مسبوقة.
(راجع طريقة تعامل حكومة أردوغان مع المعارضة وإغلاقها الصحف والمجلات والقنوات التلفزيونية)
كل هذا وغيره من الممارسات والسياسات التي يتبعها أردوغان في الواقع ما هي إلا الحقيقة الدامغة التي يخفيها وراء التصريحات الصاخبة والخطابات الرنانة سعياً لبناء السلطنة الأردوغانية، على غرار السلطنة العثمانية التي ما زال من شهودها وأعيانها من يعيش بيننا راويا مآسي 400 عام من الظلم، فضلاً عن التاريخ الذي لم يترك شاردة وواردة مارسها السلاطين العثمانيون بحق وطننا العربي إلا وسجلها، لذلك مهما بلغت الأقنعة من السبك والإتقان لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلا أنها تبقى غطاء لوجه واحد يسعى جاهدا لتحقيق حلمه بالعودة إلى ما كان عليه أجداده العثمانيون قبل نحو مئة عام، وهذا ما يرفضه الكثير من الشباب العربي ويناضلون من أجل عدم تحقيقه.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة