عزل أردوغان لرؤساء بلديات كردية.. ترسيخ للمكارثية
الأكراد رقم صعب في الحياة السياسية التركية، على الرغم من محاولات قديمة لتصفيتهم سياسيا وعسكريا.
عزلت الداخلية التركية دون سند قانوني ثلاثة من رؤساء بلديات كردية رغم فوزهم في الانتخابات المحلية التي جرت نهاية مارس/آذار الماضي، والمنتمين إلى حزب الشعوب الديمقراطي الكردي.
وأرجعت الحكومة التركية قرارات الإقالة في المدن، ديار بكر، ماردين، وفان، إلى ما زعمت أنه ارتباط رؤسائها بالإرهاب، والانتماء إلى منظمة إرهابية، والقيام بدعاية لمنظمة إرهابية، هي "حزب العمال الكردستاني".
وأثار قرار العزل استياء وقلق النخب والقوى السياسية التركية، لا سيما مع اتجاه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى تعيين موالين له بقرارات إدارية تتعارض مع صحيح القانون، إضافة إلى انتقادات واسعة واحتجاجات في المناطق ذات الغالبية الكردية شرق وجنوب شرقي البلاد.
إجراءات تعسفية
يستدعي الرئيس التركي في التعامل مع معارضيه ملامح الأجندة السياسية التي روج لها "جوزيف ريموند مكارثي"، وذلك من خلال التلويح بقائمة سوداء تتضمن أسماء المخالفين لتوجهاته واتجاهاته السياسية، حتى إنه دام على إطلاق عبارات من قبيل "الخونة" و"الجواسيس" وغيرها.
وتمكن أردوغان بمقتضى الخطاب المكارثي من تفرقة الشعب التركي، وتعريضه لخطاب الكراهية على مدى عقد كامل؛ حيث تسببت السياسة المكارثية التي اتبعها في إحداث حالة من جنون غاب عنه المنطق ضد الأكراد، واستثمر تهماً وهمية ضدهم لترسيخ استبداد تمارسه الدولة تجاههم وتجاه المدافعين عن حقوقهم.
لذلك لم تكن قرارات إقالة رؤساء البلديات الكردية في 19 أغسطس/آب الجاري صادمة، فعشية الانتخابات المحلية الأخيرة التي حصد فيها حزب الشعوب الديمقراطي الكردي بنسبة 4,2 في المئة من مجموع الأصوات، توعد وزير الداخلية سليمان صويلو بأنه سيبذل ما بوسعه من أجل إزاحة جميع الأكراد من رئاسة البلديات قائلاً: "أقولها بكل صراحة.. لن تظل هناك بلدية لحزب الشعوب الديمقراطي وما شابه".
وتزامنت هذه التصريحات مع تهديدات مماثلة أطلقها أردوغان قبل إجراء الاقتراع المحلي الأخير؛ حيث دعا إلى عرقلة ترشح الأكراد، واتخاذ جميع التدابير الإجرائية التي تمنع فوزهم، وطالب في أكتوبر/تشرين الأول 2018 علنية بمنع وصول أي مرشح كردي للفوز في الانتخابات المحلية، وإصرار حكومة العدالة والتنمية على فرض سياسة الأمر الواقع في مواجهة الأقلية الكردية دون الاستجابة لمطالبها الملحة.
قرارات عزل نواب أكراد منتخبين شعبياً، ليس هو الأول من نوعه، فخلال العامين 2016 و2017 قامت الحكومة التركية بتعيين أوصياء محليين تابعين لحزب العدالة والتنمية لإدارة 95 بلدية من بين 102 بلدية كان يديرها رؤساء بلديات موالون للأكراد منذ انتخابات 2014، وذلك على خلفية اتهامهم بالانتماء والدعاية لمنظمة إرهابية هي "منظمة حزب العمال الكردستاني".
كما تعرض حزب الشعوب الديمقراطي، الجناح السياسي المعبر عن الأكراد، لحملة قمع شديدة في الأعوام الأخيرة، فعشية الانقلاب الفاشل في يوليو/تموز 2016 تم توقيف رؤسائه ونواب ينتمون إليه، وفى الصدارة منهم رئيس الحزب صلاح الدين ديمرطاش المعتقل منذ ديسمبر/كانون الأول 2016 بتهم زائفة برئته منها المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان.
في سياق سياسة أردوغان، وظف الرئيس التركي ميلشيا "حراس القرى" التي تأسست في عام 1985 على يد الدولة التركية، والمعروفة باسم "قروجي"، في كبح جماح الأكراد؛ حيث يتم استخدامها كعصا غليظة في مواجهة المحتجين الأكراد، ناهيك عن دور معتبر لهذه المليشيا في تأمين النفوذ السياسي لحزب العدالة والتنمية وقت الاستحقاقات الانتخابية، فعلى سبيل المثال فاز الحزب بعدد كبير من بلديات المناطق الكردية في مارس/آذار 2019، بفعل تدخل "حراس القرى"، وسيطرتهم على معظم صناديق الاقتراع التي كانت تُنقل إلى أماكن سيطرتها.
الإجراءات التعسفية ضد رؤساء البلديات الكردية تؤكد أن الدولة التي تحتل مراكز متأخرة في ترتيب سيادة القانون في القرن الحادي والعشرين ستتأخر أيضاً في مجال الحريات وحقوق الإنسان، ولكنها ستتقدم على طريق ترسيخ المكارثية التي ترتكز على توزيع الاتهامات الوهمية، والانحصار في الدعاية السوداء التي تهدف إلى تخويف جماهير سئمت أداء الرئيس وحزبه، وتشويه المعارضين لتفصيل المشهد السياسي على مقاس طموحات حزب العدالة والتنمية ونخبه الضيقة.
قضم الأكراد: دوافع متعددة
جاءت إجراءات عزل رؤساء البلديات الكردية الثلاثة، مع حديث على استحياء عن انفراجة نوعية في الملف الكردي؛ حيث بدأت أنقرة في توجيه إشارات بأنها سوف تتبنى مواقف مغايرة تجاه الأكراد، على نحو انعكس في السماح لعبدالله أوجلان لقاء اثنين من محاميه وأفراد أسرته في أبريل/نسيان الماضي، وهي لقاءات لم تحصل منذ ثماني سنوات، لكن هذا اللقاء لم يكن أكثر من مناورة انتخابية، لحاجة أردوغان إلى خدمات أوجلان قبل جولة إعادة انتخابات إسطنبول في يونيو/حزيران الماضي.
والأرجح أن ثمة أسباب متعددة تدفع أردوغان للاستمرار في ممارسة التوجهات العدائية ضد الأكراد، أولها تآكل الرصيد التقليدي لحزب العدالة والتنمية، وتراجع قواعده الانتخابية، وخسارته عدداً من حلفائه التقليديين في الداخل والخارج، الأمر الذي دفع أردوغان نحو التحالف مع حزب الحركة القومية الذي يتبنى سياسات متشددة تجاه الأكراد، ناهيك عن مهاجمته دعاة تسوية الأزمة الكردية.
واتخذ مساراً معاكساً بمواصلة اتهام "حزب الشعوب الديمقراطي" بالمسؤولية عن وقوع أعمال عنف، والتعاون بليل أو من وراء ستار مع الجماعات المسلحة لتقسيم البلاد على مذبح العرقية.
ويعد فشل الرهان على عبدالله أوجلان في إمكانية حشد الصوت الكردي في جولة الإعادة في إسطنبول هي ثاني الأسباب، فلم تستجب الكتل الكردية لنصائح زعيمها الروحي أوجلان بالتزام الحياد على الأقل، بل صغت أذنها إلى دعوة زعيم حزب الشعوب الديمقراطي صلاح الدين ديمرطاش الذي طالب بالتصويت لمصلحة مرشح حزب الشعب الجمهوري أكرم إمام أوغلو.
خلف ما سبق، فإن توجه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نحو تكريس الممارسات السلطوية، ورغبته في إمساك مفاصل المشهد التركي، دفعه إلى التخلي عما وعد به قبل سنوات بإجراء مصالحة وطنية داخلية من خلال تقديم تنازلات كبيرة باتجاه أكراد تركيا.
رغم أن حزب العدالة والتنمية اتخذ عدداً من الإجراءات العملية في مجال التنمية المحلية استفاد منها الأكراد، لكنه لم يستمر في هذا المنهج الذي كان مبشراً بفتح أفقاً جديداً أمام أكراد البلاد، ويسمح بالحفاظ على وحدة تركيا، بل توجه في عام 2015 إلى حرب ضروس على مقاتلي حزب العمال الكردستاني.
ودفع حرص أردوغان الكبير على توسيع صلاحياته بطرق غير ديمقراطية إلى التحالف مع القوى السياسية المناهضة للطموحات الكردية.
ويرتبط الدافع الثالت برغبة الرئيس التركي بالقفز على الفشل في التحايل على دورة الاقتصاد المتعثر، وتصاعد معدلات البطالة والتضخم، ولذا يبقى تسخين الأزمة الكردية مطلوباً لصرف الانتباه عن التراجع الاقتصادي من جهة، ومن جهة أخرى إفساد طموح المعارضة التركية التى تنخرط منذ يونيو/حزيران 2018 في تحالف انتخابي مع الأكراد الأتراك، وتتماها بشكل ملموس مع مطالب الأكراد الأساسية في الحرية والكرامة، ضمن إطار يحافظ على وحدة البلاد، وهو الأمر الذي خصم من رصيد العدالة والتنمية في الشارع الكردي.
تداعيات سلبية
يعد الأكراد رقماً صعباً في الحياة السياسية التركية، فعلى الرغم من محاولات قديمة للتصفية السياسية والعسكرية للأكراد في جنوب شرق تركيا، إلا أن نجاحات الدولة التركية في قضم الأكراد عند حدها الأدنى.
والأرجح أن ثمة تداعيات سلبية أفرزها تعامل الحكومة التركية مع الأكراد، أولها تعزيز الانقسامات الاجتماعية، وتكريس العنف بفعل الإصرار على عسكرة الأزمة الكردية، واستخدام العصا الغليظة في مواجهة مطالب المواطنين الأكراد بدلاً من الاستجابة لها، فالصراع العنيف بين الأكراد والحكومة منذ عام 1984، راح ضحيته ما يقرب من 40 ألف قتيل.
وثانيهما إفراز أزمة سياسية- داخلية تتصاعد في ظلها التوترات السياسية وأعمال العنف، ناهيك عن سيادة حالة من عدم الاستقرار في البلاد، والتي بلغت مبلغاً في ضوء التطورات السياسية التي أدت إلى صعود الوزن السياسي لحزب الشعوب الديمقراطي، خاصة بعد استمرار محافظته على تمثيله البرلماني، وفوز مرشحه صلاح الدين ديمرطاش من محبسه في الانتخابات الرئاسية التي جرت في يونيو/حزيران 2018 بالمرتبة الثالثة، وما تلا ذلك من تصعيد على أكثر من مستوى سياسي تم تجميد عملية السلام التي بدأت في عام 2013.
في المقابل، فإن إقالة رؤساء البلديات الثلاثة مؤخراً أضفى مزيداً من التعقيد على تسوية كابوس الأزمة الكردية، وأكد إنهاء فرص صمت البنادق بين الأكراد والأتراك، وبدد فرصة نقلة نوعية في عام 2012 عندما دخلت الحكومة في عملية تفاوضية مع الأكراد.
على صعيد متصل، فإن استمرار الأزمة الكردية بات يقض مضاجع أردوغان ليس بفعل الخوف من جموح الأكراد نحو حكم ذاتي على غرار أكراد سوريا أو بسبب الحضور السياسي المكثف للأكراد في عموم الحياة السياسية التركية، بل الأهم هو تبدل المواقف الإقليمية والدولية تجاه الأكراد، ومنها موقف الاتحاد الأوروبي الذي أشار تقريره السنوي 2018 إلى معاناة الأكراد والعنف الممنهج من قبل الدولة التركية ضدهم.
كما كانت القضية الكردية مثار توبيخ أوروبي لأنقرة بعد خطوة أنقرة بعزل رؤساء البلديات المنتخبين جنوب شرق البلاد، وهو ما اعتبره الاتحاد اعتداء على إرادة الناخبين، وخطوة تعظم الشكوك حول انتكاسة العملية الديمقراطية في تركيا.
على ضوء ذلك، يمكن القول في النهاية إن السلوكيات السياسية والإجراءات غير القانونية التي تنتهجها الحكومة التركية ضد الأكراد، تفرض تداعيات سلبية على نظام الحكم، بشكل سوف يؤدي إلى تراجع موقعه وموضعه ليس في الداخل فقط، وإنما في الخارج، ويمنح في الوقت نفسه فرصاً سياسية أكبر لإظهار المظالم التي يتعرض لها الأكراد.
aXA6IDMuMTQ0LjIuNSA= جزيرة ام اند امز