من هو الرجل المرائي؟ بالرجوع إلى القواميس العربية المختلفة، نجد لفظة المرائي تعني أن يظهر المرء للناس من نفسه خلاف ما هو عليه.
ويمتد التعريف في واقع الحال من الأفراد إلى الدول والمؤسسات . ويبدو أردوغان مرائٍ إلى أبعد حد ومد، وتمضي سياسات تركية من خلفه لتظهر بخلاف ما تبطن، ولتضحى تجسيدا ممقوتا للفكر الأبوكريفي المنحول، وللمرائية المغشوشة في الحل والترحال .
في أواخر شهر نوفمبر تشرين الثاني المنصرم، وفي الرسالة التي بعثها الآغا العثماني للمشاركين في حفل افتتاح المبنى الجديد لرابطة ما يسمى "برلمانيون لأجل القدس"، في اسطنبول أشار الآغا المنحول إلى أن بلاده ستواصل "كفاحها من أجل إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة" .
هل من أحد يصدق الرجل الغاش الشفتين؟
في الرسالة عينها نجد أردوغان يفاخر بأن تركيا تسعى في كافة المحافل الدولية للدفاع عن قضية القدس، وأنها "تعمل بكل قوتها لإنهاء سياسات الاحتلال والظلم والإبادة الجماعية" ضد من يسميهم إخوتنا الفلسطينيين .
لا ينفك أردوغان يتلاعب بعواطف الدهماء، ويشاغل الديماغوجيين في العالمين العربي والإسلامي، ويفوته أنه ما من خفي إلا وسيعلن، وأن ما يقال اليوم همسا في المخادع، سوف ينادى به غدا من فوق السطوح .
ولعل سطوح الإعلام في زمن العولمة عالية جدا، إلى حد شاهق، ترصد دبيب النمل كما يقال، وعليه فقد تبين للقاصي والداني أن دعم أردوغان الغنائي الأجوف، ما هو في حقيقة الأمر إلا المزيد من التآمر السري على الفلسطينيين، وهدم لأي أسس أو منطلقات وطنية حقيقية، تجاه قضية العرب والمسلمين المركزية ....ما الذي حدث ؟
باختصار غير مخل، تكشف للعالم في الأيام الأخيرة كيف يسعى أردوغان لفتح قنوات سرية لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، وذلك في الوقت الذي يصر فيه على أنه يناهض ما يطلق عليه "الكيان الصهيوني" ويساند القضية الفلسطينية .
الفضيحة التركية الأخيرة كشف عنها موقع "المونيتور" الأمريكي ، والذي أكد على أن رجل مخابرات تركيا الأشهر، والذراع اليمين المتبقي لأردوغان في الوقت الراهن، " هاكان فيدان "، رئيس جهاز المخابرات الوطنية التركي، قد أجرى محادثات سرية مع مسؤولين إسرائيليين، في إطار جهود أطلقتها تركيا لتطبيع العلاقات .
الموقع الأمريكي يشدد على أن نحو ثلاثة لقاءات جرت بها المقادير الأسابيع القليلة الماضية شارك فيدان فيها، وهدفها الرئيس تسريع عودة العلاقات الطبيعية بين أنقرة وتل أبيب .
ولعل علامة الاستفهام التي تطرح نفسها في هذا السياق :" ما الذي يجعل أردوغان على عجلة من أمره على هذا النحو، وهل كانت الفترة منذ 2018 وحتى الساعة بالفعل أزمنة قطيعة بين الأتراك والإسرائيليين ؟
دعونا نؤجل الجواب على الجزء الأول من السؤال، فيما نحاول إلقاء الأضواء على الواقع المرائي لأردوغان وتركيا في علاقتهم مع إسرائيل .
لم يتورع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو خلال لقاء لحزب الليكود، في أواخر مايو آيار الماضي، عن كشف أوراق أردوغان المرائي، وذلك حين سخر من مواقفه التي يتخذها في العلن، بينما تختلف تلك المواقف في مجال العلاقات التجارية بين بلديهما .
في ذلك اللقاء قال نتنياهو بالنص :"أنه ربما يكون الإسرائيلي الوحيد الذي لا يسافر إلى تركيا "، بحسب ما نقلته عنه صحيفة جيروزاليم بوست .
نتنياهو وضع النقاط فوق حروف تهافت أردوغان، لا سيما حين أشار إلى أن الآغا:" ينعته بهتلر كل 3 ساعات ..والآن يفعلها كل 6 ساعات، لكن نحمد الله أن التجارة بين تركيا وإسرائيل منتعشة "...هكذا تحدث الوزير الإسرائيلي الأول .
اعتاد أردوغان على أعمال الظلام، وهو مثل بائع الشموع، الذي يخشى من عودة التيار الكهربائي، ذلك أن النور يفقده أوراق المزايدة، ومن هذا القبيل، تصريحاته غداة إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، خطته للسلام في المنطقة، ويومها امتشق أردوغان سيف البطولة واصفا الخطة بأنها :" لن تخدم السلام ولن تجلب الحل، وأنها خطة لتجاهل الحقوق الفلسطينية وإضفاء شرعية على الإحتلال الإسرائيلي ".
المرائي مكشوف ومفضوح أمر لا مناص منه، والذين يروجون له ولسياسته ليسوا إلا أبواقا إعلامية متهافتة، تضع السم في العسل، وتغزل على المتناقضات لتعميق الفجوات بين الأنظمة والشعوب، وهو مشهد لن يطول حكما .
وبالعودة إلى الجزء الأول من التساؤل المتقدم وسر الهرولة التركية في عودة العلاقات مع إسرائيل، نجد أن محور القصة يتمحور حول الرئاسة القادمة للرئيس المنتخب جوزيف بايدن .
بايدن باختصار غير مخل لم يكن يوما، وبالتأكيد لن يكون صديقا لتركيا-أردوغان، وقد عرف بمواقفه الحادة من نظام حزب العدالة والتنمية .
الرئيس الأمريكي الجديد يتحدث عن ضرورة دعم المعارضة التركية من أجل الإطاحة بنظام أردوغان الذي وصفه بالمستبد، ولا تقف تصريحات بايدن بخصوص تركيا عند هذا الحد، فقد عرف بمواقفه الرافضة لقرار إعادة متحف آيا صوفيا إلى مسجد، واتهم أنقرة بإثارة التوتر في شرق المتوسط، وتأجيج النزاع في القوقاز، وأعلن عن نيته الواضحة في أن يجعل أنقرة تدفع ثمن حيازتها لمنظومة الصواريخ الروسية " اس 400 "، والقادرة على تهديد فخر الصناعات الجوية الأمريكية " أف -35 ".
بايدن كذلك، طالب بمزيد من الضغط على تركيا لتخفيف التوتر مع اليونان، ودعا كذلك إلى استبعاد أنقرة من أي جهود دبلوماسية في الحرب الدائرة بين أرمينيا وأذربيجان، كما عارض انسحاب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وإلى جانب ذلك كله فهو يدعم مشروع القانون الأرميني ضد تركيا باستمرار .
هل يفوت إسرائيل أن التوجهات التركية المرائية هي محاولة للهروب من بايدن الآتي من بعيد وفي يده صولجان الإمبراطورية الأمريكية القادرة على تسديد ضربات موجعة للبلد الذي يعاني من ضائقة اقتصادية، وتفكك نسيجه المجتمعي في ظل رجل الأوهام الذي يحكم البلاد ؟
حكما تدرك القيادة الإسرائيلية المشهد تمام الإدراك، ولعل تسريب أخبار لقاءات فيدان كفيلة بكشف الرجل في عيون من تبقوا من مواطنيه .
الخلاصة ...المراؤون لا ينتصرون .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة