تراجعت أخبار لبنان من صدارة الصحف والبرامج التلفزيونية والمواقع الإخبارية في الأسابيع الأخيرة.
بعد أن كانت قد تصدرت هذا المشهد في شهريْ أغسطس وسبتمبر في ظروف الانفجار المُروع بمرفأ بيروت، وزيارتيْ الرئيس ماكرون إليها، وإعلان نتيجة التحقيقات في اغتيال رفيق الحريري. وربما يعود هذا التراجع إلى حالة الجمود السياسي في لبنان، فمنذ أن كُلِّف سعد الحريري في 22 أكتوبر 2020 بمهمة تشكيل الوزارة لم يحدث أي تقدم ومازالت حكومة تسيير الأعمال تمارس عملها. مما دعا مجموعة دعم لبنان وهي "الدول المانحة" إلى إصدار بيان في 25 نوفمبر تنتقد فيه هذا التأخير المُخِل.
وهدف هذا المقال هو الإشارة إلى استفحال المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي يواجهها اللبنانيون وازدياد حجم المعاناة التي يلقونها في حياتهم اليومية. تستمر معاناة الأزمة الاقتصادية-الاجتماعية بسبب التدهور المُطرد في سعر العملة اللبنانية التي فقدت نحو 70% من قيمتها، فتغير سعر الصرف المتعارف عليه على مدى سنوات وهو 1500 ليرة مقابل الدولار إلى ما يتراوح ما بين 8000-9000 ليرة حالياً.
وجمَّدت البنوك الودائع الموجودة لديها، وفرضت قيوداً على حق الأفراد في سحب مدخراتهم سواء بالليرة أو بالعملات الأجنبية، وتراجع احتياطي البنك المركزي من العملات الصعبة والذهب، وزادت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي من 131% عام 2012 إلى 176% في عام 2019. وأدى كل ذلك إلى ارتفاع أسعار المواد الغذائية بسبب تراجع المستورد منها بنسبة 50% في هذا العام مقارنة بعام 2019. وأُركِّز في هذا المقال على ثلاثة موضوعات:
الموضوع الأول هو أزمة نقص الدواء الذي يعتمد لبنان على استيراد احتياجاته منه من الخارج بنسبة 93%. فبسبب نقص العملات الأجنبية التي يمكن استخدامها لاستيراد الدواء، يزداد العجز عن توفيره. بل وأغلقت بعض الصيدليات أبوابها لعدم وجود ما تبيعه. ومع أن مصرف لبنان وضع نظاماً لدعم الأدوية، تتزايد شكوى المرضى من عدم توافر ما يحتاجون إليه في الصيدليات. وقد يكون ذلك لخفض كميات الاستيراد خاصة وأن حاكم مصرف لبنان صرح بأن المصرف لن يستطيع الاستمرار في تقديم الدعم لاستيراد الأدوية، أو بسبب قيام أصحاب الصيدليات بتخزينها وبيعها سراً بأسعار أعلى، أي خلق سوق سوداء في الأدوية، أو بسبب قيام مرضى الأمراض المزمنة بتخزين كميات منها.
الموضوع الثاني، المرتبط بالصحة أيضاً، هو تفشي وباء فيروس كورونا في خلال شهر أكتوبر مما دفع الحكومة إلى اتخاذ قرار بالغلق الكامل وذلك خلال الفترة من 14 إلى 29 نوفمبر. ومع ذلك فقد ازداد عدد المصابين خلال هذه الفترة إلى 22 ألف مصاب. وبلغ إجمالي عدد المصابين يوم 30 نوفمبر 128 ألفا وهو ما يمثِّل نسبة عالية في بلد عدد سكانه 6.8 مليون نسمة. وفرض ذلك ضغوطاً هائلة على المستشفيات، الحكومية والخاصة، التي وصلت طاقتها القصوى في استقبال المرضى وأصحاب الحالات الحرجة مما يهدد النظام الصحي بالانهيار. وهو ما وصفه رئيس الوزراء اللبناني بـ "مرحلة الخطر الشديد" ووزير الصحة بـ "المشهد الكارثي". وتبرز دلالة هذا التطور عندما نتذكر أنه حتى عام 2018، كان نظام الرعاية الصحية في لبنان من أكثر النظم تقدماً بين دول الشرق الأوسط.
والموضوع الثالث، حجم المعاناة الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها اللبنانيون. فقد أغلقت أعداد كبيرة من المحال التجارية والمطاعم والمقاهي والشركات أبوابها مما أدى إلى زيادة عدد العاطلين عن العمل، وانتشار الفقر حيث ازدادت نسبة الفقراء من 28% في عام 2019 إلى 55% في عام 2020، وارتفعت نسبة الفقر المُدقع من 8% إلى 23% في نفس الفترة، وذلك وفقاً لتقرير اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا التابعة للأمم المتحدة (الإسكوا). وتوقَّع التقرير أنه مع استمرار الظروف الراهنة سوف تزداد نسبة الفقراء وتتسع الفجوة بينهم وبين الأغنياء. وتوقَّع تقرير آخر أصدره البنك الدولي في أول ديسمبر 2020 بأن الاقتصاد اللبناني سوف يعاني من حالة ركود طويل المدى. ويواجه اللبنانيون نقصاً فادحاً في إمدادات الغاز الذي يعتمدون عليه للتدفئة في فصل الشتاء وظهور "طوابير الغاز".
وكأن ذلك لا يكفي، فتقوم عصابات إجرامية من عديمي الضمير بتهريب السلع المدعمة كالوقود والدقيق والدواء إلى سوريا للاستفادة من فروق السعر بين أسعارها في البلدين وذلك عبر معابر غير شرعية على الحدود. وقدَّر أحد الباحثين أن قيمة ما تم تهريبه في عام 2019 بلغ 800 مليون دولار. وتُسهم ممارسات الإهمال والفساد في زيادة معاناة اللبنانيين. وعلى سبيل المثال، فقد تعرَّضت آلاف الأطنان من القمح، الذي قدمه العراق كمساعدة، للتلف بسبب سوء ظروف التخزين وعدم مراعاتها لقواعد الأمان.
كانت سنة 2020 صعبة على العالم كله ولكنها كانت أكثر صعوبة على لبنان فما بين انهيار العملة، وأزمة النظام المصرفي، وانفجار مرفأ بيروت، وانتشار مرض فيروس كورونا، أصبحت حياة الناس أكثر هشاشة وضعفاً. والغريب، أن هذه التطورات لم تؤثِّر على الطبقة السياسية الحاكمة التي تحصنت بمواقعها الطائفية ومكاسبها السياسية والاقتصادية، ولم تنصت إلى صوت المظاهرات الشعبية التي انطلقت في أكتوبر 2019، ولم تَعبأ بالأوجاع الاقتصادية لأغلبية الناس. ولعل هذا ما دعا المشاركين في المؤتمر الذي استضافته فرنسا يوم 2 ديسمبر للإصرار على تقديم المعونات الإغاثية إلى اللبنانيين مباشرة وليس عبر السلطات الرسمية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة