المنطقة الآمنة التي كانت تُطلق على كردستان العراق لم تعد هكذا رغم الازدهار الذي شهدته في السنوات الأخيرة.
إذ سرعان ما عاد الركود الاقتصادي وانتشر الفساد ما أدى إلى انطلاق التظاهرات في ساحة السراي في السليمانية، وهي تتشبّه بساحتي التحرير والحبوبي من حيث تدفق المتظاهرين وزخمهم والأهداف.
هل هي العدوى من انتفاضة تشرين في بغداد والناصرية؟
ذات الداوفع التي أدت إلى تظاهرات بغداد في عام 2019 أصبحت المحرّك الأساسي للتظاهرات ضد الفساد في السليمانية، وهي في جوهرها ضد الحزبين الحاكمين الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني اللذان يتحكمان في الإقليم. فالأكراد بدؤوا يتعلمون من الجنوب العراقي في ثورتهم ضد الفساد كما حصل في كل من البصرة والناصرية والكوت وبغداد، وإشعال هذا الفتيل ينذر بما هو أعظم لأن الأزمة التي يعانيها الإقليم عميقة ومعقدة، وهي مرتبطة بحياة الناس وأرزاقهم. ويطالب المتظاهرون بإصلاح النظام في ظل الأزمة المالية التي تعصف بالإقليم مع الخلافات مع الحكومة الاتحادية في بغداد على الحصة المالية المخصصة وبيع النفط غير الشرعي وعدم تسليم الواردات إلى الخزينة المركزية. إنها ببساطة حراك الجيل الجديد الذي يرفض الفساد والتسلط والقبلية. تقوم تظاهرات السليمانية وتحت أنظارهم تجربة تظاهرات الشباب العراقيين في أكتوبر / تشرين أول 2019 والتي جوبهت بالقتل والخطف والسجن، أكثر من 700 قتيل، وهم جوبهوا بالرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع وخراطيم المياه واعتقال نحو 50 وجرح نحو 100 متظاهر سلمي. وهي ليست وليدة اليوم بل تمتد إلى شهر فبراير/ شباط والتي تطالب بإجراء إصلاحات حكومية.
تقع المسؤولية على الحكومة الاتحادية وحكومة إقليم كردستان في الوقت نفسه، لأنهما لم ينجحا في ترسيخ الشراكة السياسية في ظل صراع المصالح والمغانم والروح الطائفية والقبلية السائدة في العقلية الحاكمة في كلا الطرفين. وبدلاً من الشراكة التي تنتج التنمية والنهضة، يسود التصارع والانقسام والفساد. ولا تزال الدولة العراقية تعيش واقع التهميش للمكونات الأخرى وتكاد القرارات المصيرية مرتبطة بيد حفنة من السياسيين في بغداد. وهذا ما أدى إلى شرخ في العلاقة بين السلطة الاتحادية والإقليم، على سبيل المثال وليس الحصر فإن قرار إخراج القوات الأمريكية من العراق يبقى حكرًا بيد حكومة الكاظمي بشكل منفرد دون مراعاة للقوى الأخرى، وخاصة الأكراد مما شجّع كردستان على المطالبة بالانفصال وسط ادعاء الأكراد بأن الحكومة الاتحادية لا تطبق الدستور كون العراق بمثابة كيان اتحادي ودستوري، إلا أن الدستور نفسه مليء بالثغرات والألغام الموقوتة.
إن هيمنة الطائفية والقبلية هي التي أحدثت هذا الشرخ الكبير بين السلطة الاتحادية وحكومة الإقليم وأدت إلى سقوط هيبة الدولة وضعفها وصعود الفساد ونهب المال العام. وبدلاً من استخدام هذه الأموال الطائلة التي وصلت إلى خزينة الدولة العراقية منذ 2003 في بناء دولة قوية، قائمة على الانتاجية، ذهبت إلى بناء دولة موازية وسلاح مواز، وتسليح مليشيات خارجة على القانون من أجل زعزعة الاستقرار وضياع العراق في متاهات الطائفية والقبلية.
وفي كردستان العراق، بدلاً من إيجاد الحلول للمشاكل، تقوم الطبقة السياسية بوصف تظاهرات السليمانية بأنها "سياسية" تحركها جهات خارجية، وهي ذات الاتهامات التي ساقتها الحكومة المركزية بحق المتظاهرين في بغداد، بالتذرع بأنها مرتبطة بالأجندة الأمريكية. وهذا دليل على عجز الحكومات المتعاقبة عن حل مشاكل العراق الداخلية، ونوع من الهروب إلى الأمام حيث اللجوء إلى ربط أزماتها الداخلية الخانقة بالأزمة المالية التي تعصف بالعالم، وهو حق أريد به باطل.
يبقى إقليم كردستان قبة الميزان في السياسة العراقية حيث لا يمكن أن يعّم الاستقرار والازدهار بدون العلاقة السوية مع هذا الإقليم. ولطالما ظلت العلاقة بين السلطة المركزية والإقليم ميزان استقرار الحكم وتجنب الاضرابات في ظل خيار واحد هو الحوار والدبلوماسية.
لا تزال مشكلة الاستحقاقات المالية لكردستان تشكل عقبة كأداء، حيث تطالب السلطة المركزية الأكراد بتسليم الواردات النفطية والجمارك في ظل العجز المالي الذي تعاني منه الحكومة. ويبدو أن زيارة الوفود الكردية لبغداد في عهد حكومتي عبد المهدي والكاظمي لم تفلح في تسوية الخلافات المالية. فالعراق برمته يعاني من عجز مالي كبير، والحكومة غير قادرة على تسديد رواتب جهاز الموظفين المترهل. لذلك فهي لا تستطيع الوفاء بالتزامتها إزاء كردستان الذي تتهمه بأنه يصدّر النفط بطريقة غير شرعية وخارج قوانين الدولة العراقية. وهناك مهربون للنفط من المنافذ الحدودية كما أكد ذلك أعضاء في برلمان كردستان، وهم يطالبون بتسليم هذا الملف إلى بغداد بدلا من ذهاب هذه الأموال إلى جيوب الفاسدين. ولا يزال ملف الرواتب والنفط عالقًا بين كردستان والحكومة الاتحادية حيث يعيش الناس على إيقاع هذه الأزمة التي أكدت تقارير الأمم المتحدة إن 36 في المئة من سكان إقليم كردستان يعيشون بأقل من 400 دولار في الشهر.
لا بد من الاعتراف أخيرًا بأن هناك أحزابًا من الجيل الجديد المناهض لكل أشكال الفساد، وتسعى إلى الخروج من الوصاية الطائفية والقبلية والحزبية إلى آفاق رحبة في الحياة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة