ماذا سوف يكون موقف الولايات المتحدة الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط خلال المرحلة المقبلة؟
السؤال يُطرح في كل منصات إبداء الرأي معبرا عن حالة من القلق المسبق من الإجابة؛ والسائل يعرف بالطبع أننا نعيش مرحلة انتقالية في الإدارة الأمريكية، وأن الرئيس ترامب لا زال مصمما أنه هو الفائز في الانتخابات، ومؤخرا أكد على أنه ربما سوف يستعد للرحيل إذا ما جاء رأي المجمع الانتخابي معبرا عن فوز خصمه. ولكن حتى يأتي هذا الحين فإن ترامب يتصرف ليس كبطة عرجاء وإنما كرئيس لا يزال في السلطة، أو أنه بدأ فترة رئاسته الثانية رغم هزيمته في المعركة الانتخابية. الرئيس يعين موظفين جدد في البيت الأبيض بعد أن يحيل آخرين إلى التقاعد، ويعفو عن أصدقائه الذين طالتهم يد القانون، وهو يرسل وزير خارجيته مايك بومبيو لكي يزور ثمانية دول في الشرق الأوسط، طارحا لمبادرات جديدة. ويعقب وزير الخارجية زيارة أخرى من جاريد كوشنر – مستشار الرئيس وصفيه وزوج ابنته المفضلة – الذي يأتي أيضا إلى الإقليم محاولا حل معضلة أو أخرى. على الجانب الآخر فإن الرئيس المنتخب "جو بايدن" دخل مرحلة ما بعد الانتخابات مباشرة وهو في حالة غير صحية فقد فاز في الانتخابات ولكن المرحلة الانتقالية لم تبدأ فورا، وخصمه المهزوم لم يقدم تنازله بعد؛ وعلى أية حال وبعد أن أقرت هيئة الخدمات العامة نتيجة الانتخابات، فإن بايدن شغل وقته بتكوين لجنة قومية للتعامل مع الفيروس التاجي، وتكوين الطاقم الذي سوف يعمل معه.
الحالة هكذا لا تزال مضطربة، ومن الصعب تحديد التوجه الأمريكي تجاه الشرق الأوسط، ولكن الأسئلة المطروحة عن هذا التوجه وراءها تخوف من إدارة بايدن؛ وهو تخوف ينبع من مصدرين: أن يكون الرجل امتدادا لإدارة أوباما التي وقفت إلى جانب ماسمي "الربيع العربي" المزعوم ومن بعدهم جماعة الإخوان المسلمين وتوابعها؛ أو أن الرجل قد يستجيب لضغوط الجماعات الليبرالية واليسارية داخل الحزب الديمقراطي بحيث تعود علينا بسياسات لا تتلاءم مع واقعنا السياسي والثقافي كما جرى الحديث في الحزب الديمقراطي وتابعيه من جماعات ضغط ومراكز بحوث في واشنطن.
هذه السياسات لم تؤمن الاستقرار في المنطقة سابقا عندما قدمت لعدم الاستقرار، فلماذا إذن الاستمرار في السياسات التي لا تخدم المصالح الحيوية لأمريكا؟ وما هي تلك المصالح التي تستحق القتال من أجلها؟ في السابق، وعلى المستوى الكلي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، كان الأمر بسيطًا: إسرائيل والنفط، مع إيماءة ثانوية للتجارة ومبيعات الأسلحة. لم يعد هذا هو الحال الآن بعد أن وضع ترامب إسرائيل على طريق السيطرة على مستقبلها من خلال الضغط على إيران وحزب الله، ومواصلة الترتيبات الدفاعية الثنائية التي تعزز التفوق النوعي لإسرائيل، وشجع سياسات إعادة الاستقرار إلى المنطقة من خلال اتفاقيات للسلام، والتأكد من أن مجلس الأمن الدولي لن يمرر أبدًا قرارًا مزعجًا آخر يتحدى نظرة إسرائيل للعالم. وفي أسواق الطاقة العالمية، لم يكن الأمر أقل تعقيدا، حينما باتت الولايات المتحدة منافسًا قويا ضمن الدول المنتجة للنفط. وحتى في مبيعات الأسلحة والتجارة، تجد الولايات المتحدة نفسها في منافسة شديدة مع روسيا والصين إلى فرنسا والمملكة المتحدة.
الإجابة التي طرحتها دوما على تساؤلات موقف الولايات المتحدة من منطقتنا فيها أمر ناقص وهو ما هو موقف منطقتنا من الولايات المتحدة، وما هي السياسات التي نتبعها إزائها، وما هي المصالح التي تربطنا بها أمنيا واقتصاديا واستراتيجيا أيضا. الأمر في الأول والآخر يتوقف على دول المنطقة في بناء قوتها الذاتية، وقدرتها على التحالف والائتلاف لتعظيم القوة وخلق التوازنات المواتية لتحقيق هذه المصالح التي تكونها أوضاع تجري في عالم متغير. من الواجب هنا ملاحظة أنه بدأت لعبة القوى العظمى في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في التغير، حيث وسعت الصين طموحاتها عندما وضعت في مبادرتها "الحزام والطريق" موانئ البحر الأحمر والبحر الأبيض المتوسط، ودبلوماسيتها الاقتصادية تشق طريقها في مسيرة طويلة إلى شمال أفريقيا. وروسيا لن تغادر سوريا في أي وقت قريب وستواصل الضغط على لبنان ومصر لقبول المساعدة العسكرية على حساب المصالح الأمريكية. وسيكون من قصر النظر التقليل من دور إيران وتركيا كقوى إقليمية عدوانية تعمل على التأثير في الإقليم كله. وبشكل ما فإن العالم ثلاثي الأقطاب يتفاعل في الشرق الأوسط من منظور عالمي وليس منفصلا عن بقية المصالح العالمية للأقطاب سواء كانت اقتصادية أو استراتيجية، وفي كل الأحوال فإنها تحسب حسابا غير قليل لدول الإقليم الرئيسية كمدخل أساسي في صياغة سياستها تجاه الإقليم.
في اللحظة الراهنة فإن سياسة الولايات المتحدة مرتبكة ليس فقط بحكم المرحلة الانتقالية التي تعيش فيها، وإنما أكثر من ذلك أن التوجه الأمريكي للانسحاب من الشرق الأوسط بدأ منذ نهاية الفترة الأولي لإدارة جورج بوش الابن بعد أن بات واضحا أن "الغزوة" الأمريكية لأفغانستان والعراق لم تكن ناجحة. وإذا كانت سياسة التصعيد في العراق خلال الفترة الثانية قد أطالت عمر الغزو، وجعلت واشنطن تنظر في وضع استراتيجية شاملة لحل المعضلة العربية الإسرائيلية ابتداء من عقد مؤتمر "إنديانابوليس"؛ فإن النتيجة كانت سلبية في النهاية. وعندما جاء أوباما إلى السلطة فإنه بدأ مرحلة الانسحاب العلني من العراق، ومن بعدها أفغانستان، أما مبادرته للسلام في الشرق الأوسط فإنها لم تلبث أن تآكلت هي الأخرى. سياسات ترامب لم تخرج عن هذا التوجه اللهم إلا إجراءات انتقائية للتخلص من قيد الاتفاق النووي الإيراني، وتشجيع سياسات السلام العربية الإسرائيلية؛ ولكنه في ذات الوقت لم يقم بسياسات رادعة تجاه التحركات والضربات العدوانية الإيرانية ولا التركية في المنطقة رغم أنها جرت في مواجهة حلفاء عرب واليونان.
بايدن أولوياته معروفة سواء كان ذلك بالاختيار أو بما تفرضه الظروف، فالمؤكد أنه يقدم الداخل على حساب الخارج، وفي الخارج فإنه يفضل إنعاش حلف الأطلنطي والعلاقات الأمريكية الأوروبية، وتلك مع اليابان كوريا الجنوبية وأستراليا، وبعد ذلك إدارة "التنافس" مع الصين وروسيا، الشرق الأوسط سوف يأتي بعد كل شيء آخر طالما بقيت مسيرة السلام قائمة مع إسرائيل. الحقيقة هي أن قيم بايدن لم تكن مسايرة لتلك التي اتبعها أوباما، وإنما تشترك أكثر مع الأجندات الأممية لبيل كلينتون وجورج دبليو بوش وجورج بوش الأب. تشمل أحجار الزاوية في برنامج بايدن أولوية الدبلوماسية، وبناء العلاقات والتحالفات، والتأكيد على التعددية من أجل حل النزاعات، وزيادة الاهتمام بحقوق الإنسان وسيادة القانون بدرجة أو أخرى. ما ينبغي له أن يبقي في الذهن دائما بعيدا عن هذه التوجهات العامة هو أن عين بايدن لن تغفل عن أمرين: أولهما أن ترامب سوف يبقى في الساحة الأمريكية لفترة قادمة، وطالما أن فترته الثانية لم تكن في السلطة فإنها سوف تكون في المعارضة. وثانيهما أن المشهد الأمريكي حاليا يعكس شروخا كثيرة في البنية الأمريكية السياسية والاقتصادية.
باختصار فإن التعامل العربي مع سياسات الولايات المتحدة إزاء الشرق الأوسط لا ينبغي له أن يعتمد على ما سوف تفعله واشنطن وإدارة بايدن، بقدر ما تعتمد على بناء التحالف الرباعي العربي، وتدعيم التوجه من أجل السلام في منطقة شرق المتوسط، وإدارة العلاقات الدولية للمنطقة بالقدر المطلوب من الحنكة والفطنة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة