أن تصل متأخراً خير من أن لا تصل أبدا، يصح هذا القول في وصف انضمام الأوروبيين إلى الأمريكيين مؤخرا في الاعتراف بفشل الاتفاق النووي المبرم مع إيران عام 2015.
باحت بذلك فرنسا أولاً ثم جاءت ألمانيا ليقول وزير خارجيتها هايكو ماس، بصراحة ودون مواربة، "لم تعد العودة إلى هذا الاتفاق كافية".
برلين وباريس تمثلان الاتحاد الأوروبي كطرف أساسي في ذلك الاتفاق، ومع الأخذ بعين الاعتبار انسحاب الولايات المتحدة منه عام 2018، واستحالة تعارض بريطانيا مع حلفائها الغربيين في جوهرية هذا الموقف وليس شكلياته، يضحي الاتفاق مجرد تفاهم مهزوز بين إيران والصين وروسيا لا قيمة له واقعيا وفعلياً.
وزير الخارجية الألماني يقول إن لندن منسجمة مع برلين وباريس في أن الاتفاق مع إيران يجب أن يتوسع ليشمل برنامجها الصاروخي وسلوكها تجاه دول المنطقة، وهذا يقودنا إلى حقيقة واحدة مفادها أن الدول الأوروبية باتت تدرك أن خطر الخمينيين يتجاوز امتلاك قنبلة نووية، وأن أمن المنطقة جزء من الأمن الدولي.
صحيح أن وصول الأوروبيين إلى هذه النتيجة المنطقية استغرق عامين تخللهما كثير من تهديدات إيران لأمن المنطقة والملاحة الدولية، ولكن المفارقة أن الموقف جاء قبيل بدء عهد الرئيس الأمريكي المنتخب جو بايدن، الذي يفترض أن يكون أكثر مرونة من سلفه في التعامل مع الخمينيين ومستقبل برنامجهم النووي.
مقارنة بتصريحات كثيرة مؤيدة للاتفاق خلال العامين الماضيين، يعتبر الموقف الأوروبي اليوم بمثابة انقلاب حقيقي على النظام الإيراني، والسبب هو تيقن فرنسا وألمانيا من أن بايدن لن يهدم ما بناه سلفه دونالد ترامب في هذا الملف، وسيتابع مسلسل العقوبات الاقتصادية حتى تعود طهران عن زعزعتها لأمن المنطقة والعالم.
الضغوط الأمريكية المهولة التي مارسها الرئيس ترامب على النظام الإيراني منذ تخليه عن الاتفاق النووي في 2018، أتت بثمارها اليوم، صحيح أنه لن يجنيها بنفسه وستسجل لخلفه الديمقراطي إذا لم تتغير نتائج الانتخابات حتى السادس من يناير المقبل، ولكن العالم سيبقى ممنونا للإدارة الأمريكية الحالية في هذا الملف لعقود.
ربما هزم ترامب في انتخابات 2020، ولكنه انتصر في رسم السياسة الخارجية الأمريكية للسنوات الأربع المقبلة بملفات عدة على رأسها العلاقة مع إيران والصين، والسلام العربي مع إسرائيل، كما وضع محددات للسياسات الداخلية سيجد الديمقراطيون صعوبة بالغة في تجاوزها قبل الاستحقاق الرئاسي المقبل في 2024.
حتى ذلك التاريخ سيحرص بايدن على إتمام الصفقات التي مهد لها ترامب ولم يستطع إتمامها، وعلى رأسها الصفقة مع إيران، ولكن هل الهوة التي اتسعت بين طهران والغرب خلال العامين الماضيين، يمكن أن تردم بسرعة، ويتخلى الخمينيون عن نزقهم وسياساتهم التوسعية من أجل رخاء الشعب الإيراني واقتصاده؟
لا يتسق الافتراض مع البنية الذهنية لولاية الفقيه التي تفضل الحرب على السلم، وتسعى إلى عداء دائم مع خصم حقيقي أو وهمي، فقط من أجل ديمومة الهيمنة الخمينية على دول وشعوب، في هذا السياق فقط تفهم أفكار مثل تصدير "الثورة الإيرانية"، ورمي الإسرائيلين في البحر، والتصدي لـ "الشيطان الأكبر" الأمريكي.
عملياً بات الاتفاق النووي بالنسبة لإيران بحكم الميت، لا داعي للاستمرار فيه، ولا يصلح البناء عليه، حتى لو قررت طهران العودة إلى التزاماتها كاملة فيه، والخياران البديلان هما إما التفاوض على اتفاق جديد يقنع الدول الكبرى ودول المنطقة على السواء، وإما اللجوء للصين وروسيا والتخلي عن المصالحة مع الغرب.
لا يوجد بين أركان النظام الإيراني من يؤيد التفاوض على كل المكتسبات العسكرية والاقتصادية التي حققوها على مدار العقدين الماضيين، ولكنهم منقسمون بين من يريد الحوار مع الأوروبيين والأمريكيين، ومن يرفضه بتاتاً ويفضل بكين وموسكو كبدائل قوية يمكن أن تشكل معهما إيران جبهة قوية في مواجهة للغرب و"إمبرياليته".
لا تحمل هذه القراءة للانقسام الداخلي في إيران أية اجتهادات تحليلية، وإنما هي رصد لما جاء على لسان الرئيس حسن روحاني نفسه عندما دعا البرلمان والسلطة القضائية والقوات المسلحة، إلى التكاتف لإيجاد "الأمل" المتمثل بنجاح المفاوضات المتوقعة مع الغرب بعد وصول الديمقراطي جو بايدن إلى البيت الأبيض.
لم يعد الانقسام الإيراني سراً، وقد تفجر بعد قتل العالم النووي محسن فخري زاده، وأدى إلى إصدار البرلمان ومجلس صيانة الدستور لقانون يطالب الحكومة بتخصيب اليورانيوم إلى أقصى حد ممكن، وبعد الإعلان الألماني الأخير عن عدم كفاية الاتفاق بصيغته الحالية بين طهران والقوى الكبرى، سيزداد الشقاق تبايناً.
على ضوء هذا لن تكون مهمة روحاني في توحيد الإيرانيين سهلة أبداً بعد اليوم، وكذلك لن يكون سهلاً الخوض في مفاوضات تطالب برأس نظام الولي، إن جاز التعبير، فالتفاوض على كل ما تملك طهران من تفوق عسكري وتوسع عدواني في المنطقة، ليس شيئا يسهل إقناع "فرسان" الحرس الثوري به بسهولة ويسر.
اليوم بات واضحا للجميع في إيران أن المفاوضات المقبلة مع الأوروبيين والأمريكيين لن تكون كتلك التي وصلت إليها طهران قبل خمس سنوات، لن يكون هناك أي مكرمات من المفاوضين هذه المرة، ولن توضع ملفات فوق الطاولة وأخرى تحتها، الحوار سيشمل كل شيء دون استثناء مهما بلغت حساسية الأمر.
الانقلاب الأوروبي على نظام الولي الفقيه رسم محددات التفاوض المقبل مع إيران إن كانت تريد التحول إلى دولة طبيعية في المنطقة، وهذه المحددات هي جل ما كانت ولا تزال، تريدها الدول العربية التي تأذت من السياسة الخارجية لنظام طهران، فحتى الأمس القريب كانت دول القارة العجوز لا تخشى إلا امتلاك الخمينيين للقنبلة النووية، أما اليوم، وبعد عامين من العمل المضني لدول المنطقة مع ترامب، اكتشف الأوروبيون أن الاتفاق النووي كان خطأ، فإيران هيمنت على أربع دول عربية، وشردت وقتلت مئات الآلاف فيها، عبر صواريخ لا تحمل رؤوساً نووية، وميليشيات تصنف بالإرهابية في كثير من دول العالم .
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة