تأتي زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للإمارات في سياق سياسي واستراتيجي واقتصادي هام للبلدين.
وذلك مع التوجهات الجديدة، التي تتحرك فيها تركيا وتسعى بها إلى طيّ الماضي وبدء صفحة جديدة مع الدول العربية، وهذا واضح من مسعى الرئيس التركي لتصفير المشكلات مع الدول الرئيسة في الإقليم، وبناء استراتيجية تقوم على المصالح المشتركة والفوائد المتبادلة، وهو شعار يتحرك من خلاله حزب "العدالة والتنمية" الحاكم في تركيا، مدفوعا بمناخ سياسي واستراتيجي جديد فعلا في محاولة للاقتراب المَصْلحي مع دول الإقليم، وهو ما سيتيح العمل وفق أجندة جديدة تتجاوز تباينات الماضي، وهو ما أعلنه الرئيس التركي شخصيا من مسعاه إلى بناء شراكات مع دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر، وأن هذا الأمر سيترجم في مجالات جديدة تفيد كل الأطراف، ويؤكد أن تركيا تعيد تموضع سياستها وفق قاعدة نفعية.
ومن الطبيعي أن تكون زيارة الرئيس التركي للإمارات مقدمة حقيقية لتطوير منظومة العلاقات الاقتصادية وإبرام اتفاقات في مجالات متعددة لن تقتصر على البعد الاقتصادي والاستثمارات، بل ستدخل في شراكات أخرى تفيد البلدين، وهو ما برز في سياق ما سبق الزيارة من تصريحات مهمة للمسؤولين الأتراك، الذين يراهنون على مسارات جديدة للعلاقات مع دولة الإمارات، نظرا لمكانتها الإقليمية والعربية الكبيرة، وما يمكن أن يتحقق في مرحلة ما بعد إتمام الزيارة، خاصة أن دولة الإمارات تتبنى نموذجا رشيدا في إقامة وتدشين علاقات دبلوماسية واقتصادية مختلفة، عبر مقاربات جديدة في نطاق دبلوماسية منفتحة على كل الأطراف وتسعى بالفعل لبناء مستويات مختلفة للعلاقات شكلا ومضمونا، مع حرص قيادة الإمارات على اتباع منهج مختلف تماما عن الدبلوماسية التقليدية، والعمل وفق دبلوماسية أكثر حضورا وجاذبية وتأثيرا في النطاقين الدولي والإقليمي معا.
هذا الأمر يؤكده تحرك الدبلوماسية الإماراتية وفق رسائل بليغة وواقعية تقوم على نشر قيم التسامح الدولي، والتركيز على مستويات متعددة لمجالات التعاون الإقليمي والدولي، الأمر الذي حجز لها مكانا متميزا في إطار الممارسات الدبلوماسية الدولية، وذلك بشهادة كبار الأكاديميين والسياسيين، وهو ما سيعطي للتحرك الإماراتي تجاه دولة مثل تركيا زخما كبيرا وواضحا يفيد التحرك العربي في التعامل مع التطورات الجارية في الإقليم بأكمله، خاصة أن المصالح الاقتصادية، التي يستهدفها الجانبان، مهمة، وتعمل في سياقات مختلفة، وترتكز على أسس واقعية، كما تتحرك في إطار جديد، وهو ما برز في ما تم الإعلان عنه خلال زيارة الرئيس التركي أردوغان وتستهدفه الإمارات في آنٍ، ولعل هذا ما يشير إلى المناخ الجديد، الذي تتشكل فيه العلاقات بين البلدين، ارتكانا إلى قاعدة الاستفادة المشتركة، والتي تشمل دولا أخرى تعمل تركيا إلى مد منظومة تعاملاتها معها، وهو ما سيكون جزءا من مسارات الحركة التركية في الفترة المقبلة، خاصة مع انفتاح مجالات التعاون الاقتصادي والأمني، وقد برز ذلك بوضوح في المستهدف من زيارة الرئيس التركي أردوغان، وأهم ما فيه إبرام 12 اتفاقية تشمل مجالات الاستثمار والدفاع والنقل والصحة والزراعة، كما تم التوقيع أيضا على مذكرة تفاهم بشأن التعاون في مجالات النقل البري والبحري، وبدء المفاوضات بخصوص اتفاقية الشراكة الاقتصادية الشاملة.
كما يسعى الرئيس التركي لوضع الاتفاقيات العشر، التي تم التوقيع عليها خلال زيارة صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، ولي عهد أبوظبي نائب القائد الأعلى للقوات المسلحة الإماراتية، إلى أنقرة في الرابع والعشرين من نوفمبر الماضي، موضع التنفيذ، وهو ما أكدته الخارجية التركية رسميا.
المعنى أن كل الملفات الثنائية بين البلدين حاضرة بقوة ووفق إرادة سياسية مشتركة، حيث إن إيجاد أرضية جديدة وبتوافقات نفعية سيشكل حجر الزاوية، وسيؤدي بالفعل لتعاون كامل لا يقتصر على تطوير العلاقات الاقتصادية بينهما، وإنما سيمتد إلى مجالات أخرى كانت غير مطروقة في أجندة العلاقات بين البلدين، وأهمها ملفات التعاون في مجالات الصناعات الدفاعية، والذي بات يحظى بأهمية قصوى، حيث تسعى الإمارات لإبرام شراكات هامة مع تركيا في هذا الخصوص بما يمثله من أهمية كبيرة حاليا، وقد سبق ذلك كما هو معروف تأسيس دولة الإمارات صندوقا لدعم الاستثمارات في تركيا بقيمة عشرة مليارات دولار، ومن المؤكد أن هذا التطور الهيكلي في مستوى العلاقات الإماراتية التركية سينعكس إيجابا على ملفات كثيرة في المنطقة، ومن المتوقع أن يكون التعاون الإماراتي التركي بلا حدود ما دام ذلك سيصب في النهاية لصالح دعم الاقتصاد التركي والعملة التركية المحلية، التي باتت تمثل هاجسا للرئيس التركي قبيل الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في يونيو 2023.
ومن الواضح أن تركيا ترى أن الإمارات هي "الدولة المحورية"، على حد قول الرئيس التركي، القادرة على دعم الاقتصاد التركي بالفعل عبر سلسلة مشروعات تمت مؤخرا، وأهمها إبرام بنكي الإمارات وتركيا المركزيين اتفاقا لتبادل العملات تبلغ قيمته قرابة 5 مليارات دولار بالعملتين المحليتين، ما يوفر مصدرا محتملا للدعم في ظل التقلبات الاقتصادية التي تواجهها تركيا.
وسيستمر ذلك الاتفاق لثلاثة أعوام مع إمكانية تمديده، مع الإشارة إلى أن قيمته الاسمية تبلغ 64 مليار ليرة "4.71 مليار دولار"، أي ما يعادل نحو 18 مليار درهم إماراتي، كما وقعت "مجموعة مواني أبوظبي" و"صندوق الثروة السيادي التركي" اتفاقية شراكة استراتيجية لاستطلاع الفرص الاستثمارية وتطوير وتشغيل المواني وتنسيق الجهود المشتركة لدراسة عدد من المشاريع الاستثمارية في القطاع اللوجستي في تركيا.
ووقع "سوق أبوظبي للأوراق المالية" اتفاقية شراكة مع "بورصة إسطنبول" بهدف تعزيز التعاون الاستراتيجي بين الطرفين وتطوير قطاع الخدمات المالية في الإمارات وتركيا، الأمر الذي يشير إلى النقلة الجديدة في مستويات العلاقات الراهنة والمتوقعة بين البلدين، وهو ما يؤكد أن سيناريوهات جديدة واعدة تنتظر العلاقات الإماراتية التركية في الفترة المقبلة، وبالفعل وواقعيا فإن الزيارة ستؤسس لصفحة جديدة من التعاون غير التقليدي، وسيكون لها انعكاسات حقيقية على الإقليم بأكمله، وليس فقط على مستوى العلاقات الثنائية.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة