كسر العزلة بالفن.. كيف تواجه أوروبا محاولات الإخوان لتأسيس مجتمع موازي؟

يعتمد تيار الإخوان على استراتيجية طويلة الأمد لتحقيق أهدافه في أوروبا، والتي ترتكز على التغلغل الثقافي والاجتماعي التدريجي. هذه الاستراتيجية لا تهدف إلى الصدام المباشر مع الفنون، إلا في الحالات التي تتعارض فيها مع رؤيتها ومصالحها.
يبرز هنا ما يطلق عليه "الغيتو المسلم"، وهو مفهوم طرحه يوسف القرضاوي، حيث يتم تشجيع إنشاء مجتمعات منفصلة مزودة بمؤسساتها الخاصة من مساجد ومدارس ومراكز ترفيه. هذه الشبكات لا تقتصر على كونها مراكز عبادة، بل تعمل كأدوات لتشكيل الحياة اليومية للجيل الجديد، وتعميق الانتماء الفكري والسياسي للجماعة، مما يحول دون اندماج هذه الجاليات في النسيج الاجتماعي الأوسع.
العزلة.. كقرار استراتيجي للجماعة
التقارير الأمنية الألمانية، على سبيل المثال، وثقت كيف أن المنظمات المرتبطة بالجماعة تسعى لإنشاء "مجتمعات موازية" تعيش في عزلة عن المجتمع الأكبر، مما يؤدي إلى انقسام اجتماعي وثقافي. هذه الاستراتيجية، التي تهدف إلى "تمكين ثقافي" للجماعة، تم تأكيدها في دراسات لمؤسسة هيرتاج (The Heritage Foundation) التي أبرزت أن هذا النفوذ لا يعتمد على الصدام المباشر، بل على التأثير التدريجي، ووثقت تقارير ألمانية كيف أن المنظمات المرتبطة بالجماعة تعمل على تشكيل "مجتمعات موازية" تسعى للانفصال عن المجتمع الأوسع.
تتضح هذه الرؤية في الخطاب المزدوج للجماعة، والذي يقدم واجهة معتدلة للإعلام والمجتمع، بينما يتبنى داخليا خطاباً يعارض القيم الأوروبية الأساسية مثل المساواة بين الجنسين وحقوق المثليين. هذا التناقض يتيح للجماعة التحرك بمرونة في الفضاء العام، واستقطاب التعاطف عبر استخدام لغة الحوار والتعايش، وفي الوقت نفسه، بناء قواعد فكرية صلبة تعمق من الفروق الثقافية.
وفيما يخص الفن، تتجلى هذه المواقف بوضوح في ردود الأفعال الصارمة على الأعمال التي تعد مسيئة أو لا تتوافق مع رؤيتهم، مثل الدعوة إلى احتجاجات واسعة ضد أعمال فنية محددة، مما يفرض ضغطا على الفنانين والمؤسسات الثقافية. كما يتم توظيف مصطلح "الإسلاموفوبيا" كأداة سياسية لتجنيد الدعم وتجنب النقد، مما يعمق الشعور بالانعزال داخل الجاليات ويعزز من سيطرة الجماعة على الخطاب العام حول المسلمين في أوروبا، وهو ما أكدته أبحاث من المركز الأوروبي للقيم (European Values Center) الذي يرى أن هذا الخطاب يهدف لتقويض النقد المشروع للتيارات المتطرفة.
ويتم تعزيز هذه الاستراتيجية عبر السيطرة على المؤسسات الثقافية والمجتمعية التي تتلقى دعما رسميا، ما يسمح لهم بالتأثير في المناهج التعليمية غير الرسمية، والمحتوى المقدم في المراكز الشبابية، وحتى في الفعاليات العامة. هذا النفوذ يمكن أن يؤدي إلى الرقابة الذاتية لدى المؤسسات الثقافية الأوروبية التي تخشى من ردود الفعل، أو من فقدان التمويل والشراكات. فالهدف ليس فقط انتقاد عمل فني، بل هو بناء بنية تحتية ثقافية تضمن سيادة وجهة نظر معينة، والحد من مساحة التعبير المفتوح.
ويتم استخدام شبكات إعلامية ومواقع تواصل اجتماعي لبناء سرديات خاصة بالجماعة، وتوظيف المؤثرين للترويج لأفكارها، ما يمنحها قوة كبيرة في التأثير على الرأي العام وتوجيهه، وتقديم نفسها كممثل حصري للجالية المسلمة، بينما هي في الواقع تمثل تيارا واحدا من تيارات عدة. هذا النفوذ المتزايد يتطلب من المجتمع الأوروبي يقظة مستمرة للتمييز بين الأنشطة الثقافية المشروعة والتدخلات الأيديولوجية التي تسعى لتقويض القيم الأساسية للمجتمع.
الفن: قلعة الصمود في وجه الوصاية
لم يقف المجتمع الأوروبي صامتاً، بل كان رده قويا عبر المبادرات الفنية والقانونية التي تؤكد على التمسك بحرية التعبير. في هذا السياق، يصبح الفن خط الدفاع الاول عن هوية القارة. فالأعمال الفنية التي تثير الجدل لم تكن سوى رد مباشر على محاولات فرض قيود ثقافية. هذا الرد لا يقتصر على موقف سياسي، بل هو تمسك بمبدأ أن الفن يجب أن يبقى مساحة حرة للاستفزاز، التساؤل، وحتى السخرية، دون الخضوع لأي محظورات تفرض من خارج الإطار القانوني للدولة. هذا المفهوم جزء لا يتجزأ من الإرث الفكري الأوروبي الذي يرى في التعبير النقدي قيمة عليا.
ويتم التعبير عن هذا الصمود من خلال إبداعات لا حصر لها، بدءا من المعارض الفنية التي تستكشف موضوعات حساسة، وصولا إلى المسرحيات والأفلام التي تتناول قضايا اجتماعية بجرأة. فالمؤسسات الثقافية الأوروبية ترفض الاستسلام للضغوط، وتؤكد على دورها في حماية الفنانين وتوفير منصات لهم للتعبير بحرية تامة.
وتشدد هذه المؤسسات على أن الفن ليس ترفا، بل هو مرآة للمجتمع، ووسيلة للحوار، والتعبير عن الاختلافات. كما أن الفضاءات الفنية نفسها، مثل المسارح والمعارض، تتحول إلى ساحات للنقاش العام، حيث يتم استضافة حوارات حول حدود الحرية، ومسؤولية الفنان، ودور الفن في مجتمع متعدد الثقافات.
بالتوازي مع هذه المواقف الفنية، اتخذت الدول الأوروبية إجراءات مؤسسية صارمة لمواجهة التغلغل الأيديولوجي. ففي فرنسا، أطلقت الحكومة تحقيقات موسعة وسنّت تشريعات لتعزيز المبادئ الجمهورية، مثل الرقابة على المناهج التعليمية وتدقيق التمويل الخارجي.
هذه الإجراءات تهدف إلى حماية التعليم من أي تدخلات خارجية، وضمان أن المبادئ العلمانية والجمهورية يتم تدريسها بوضوح في كافة المؤسسات التعليمية. وفي ألمانيا، حذرت التقارير الأمنية من المنظمات المرتبطة بالجماعة، مؤكدة أن دعمها المعلن للتسامح قد يكون تكتيكا لإخفاء أهدافها الحقيقية، وهو ما وثقته دراسة لـ معهد الدراسات الأمنية (ISPI).
وقد كانت النمسا أول دولة تحظر الجماعة في إطار قانون مكافحة الإرهاب، وهو ما أرسل رسالة واضحة حول جدية الحكومات الأوروبية في مواجهة هذه التحديات. هذه الإجراءات تؤكد وجود شبكة سرية واسعة للجماعة، تتعارض أهدافها مع القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. تقارير أمنية من دول أوروبية متعددة، مثل بلجيكا، السويد، وهولندا، تشير إلى أن هذه الشبكة تستخدم منظمات مدنية وجمعيات خيرية كواجهة لتمرير أهدافها السياسية.
المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية، على سبيل المثال، وافق على ميثاق يرفض التدخل السياسي للإسلام، وهو ما يمثل خطوة هامة نحو فصل الدين عن السياسة، وتأكيد على أن الإسلام في فرنسا يجب أن يكون متوافقا مع القيم الجمهورية. كما تم اتخاذ إجراءات صارمة ضد القنوات التلفزيونية التي تبث محتوى عنيفا أو متطرفا، ما يعكس حرصا على مكافحة التحريض على الكراهية.
هذه الخطوات القانونية والمؤسسية تؤكد أن الرد الأوروبي هو رد شامل، لا يقتصر على الفن أو السياسة، بل يشمل كل جوانب الحياة الاجتماعية، بهدف حماية القيم التي بنيت عليها القارة. تقارير مركز تريندز للبحوث والاستشارات ومركز غلوبسيك (GLOBSEC) تشير إلى أن هذه الإجراءات تهدف إلى مواجهة نفوذ الجماعة في مختلف الدول الأوروبية، من خلال تدابير سياسية وقانونية.
أسوار الوعي.. تحصين المجتمع
لم يقتصر الرد الأوروبي على الفن فقط، بل امتد ليشمل مقاربة شاملة تتضمن الرقابة والتعليم والسيادة القانونية، لمواجهة أي تدخل ثقافي يسعى لفرض أيديولوجية معينة. الحكومات والبلديات تتخذ خطوات جادة لمراقبة الشراكات مع المنظمات، وتعمل على وقف التمويل عن الجمعيات المرتبطة بالجماعة التي قد تستغل شرعيتها لتحقيق أهداف سرية.
وقد أدى تمويل الاتحاد الأوروبي لبعض المنظمات إلى تشديد الرقابة على التمويل الخارجي، وهو ما أشارت إليه وثيقة البرلمان الأوروبي ، التي دعت إلى جهود متزايدة لرصد التمويل الأجنبي للجمعيات الدينية والثقافية للتأكد من عدم استخدامه في نشر خطاب الكراهية أو الانفصالية. وتؤكد دراسات من معهد راند (RAND Corporation) ومعهد هدسون (Hudson Institute) على أن هذا التمويل يمثل إحدى الأدوات الرئيسية التي تستخدمها الجماعة للتغلغل في المجتمع الأوروبي.
في مجال التعليم، الذي يعد ساحة أساسية لنشر الأفكار التقسيمية، اتخذت الدول الأوروبية إجراءات مضادة لضمان دمج الوافدين الجدد وتوجيه المناهج بما يتوافق مع القيم المدنية. ففي فرنسا، يتم التركيز على مراقبة المدارس الإسلامية الخاصة، وتدريب الأئمة على تقديم تعاليم دينية تتماشى مع المبادئ الجمهورية. وتبرز تقارير معهد مونتين الفرنسي (Institut Montaigne) أهمية هذه الإجراءات.
وفي هولندا، يركز التعليم على دمج الوافدين عبر تعلم اللغة والثقافة المحلية كأساس لبناء مجتمع موحد. هذه الجهود التعليمية تهدف إلى بناء وعي جماعي يرفض الانقسام ويؤمن بالقيم المدنية المشتركة، بدلا من الانسياق وراء دعوات الانعزال.
وتؤكد المؤسسات الأوروبية أولوية القانون المدني للدولة، رافضةً إنشاء أنظمة قانونية متعددة داخل المجتمع. هذا الموقف يعكس تمسكا بمبدأ سيادة القانون، ورفضا لأي محاولة لفرض قوانين موازية أو نظم شرعية غير رسمية. كما تتخذ السلطات إجراءات صارمة ضد أي خطاب كراهية أو تحريض على العنف، ما أدى إلى تجميد التمويل للعديد من الأفراد والمنظمات التي تروج للأفكار المتطرفة.
بينما تسعى الجماعة المذكورة إلى تحقيق تمكين ثقافي عبر مؤسسات موازية، مستخدمة خطابا يعزز الشعور بالانعزال، يواصل المجتمع الأوروبي دفاعه عن قيمه بثبات. هذا الدفاع لا يقتصر على الصدامات، بل يمتد ليشمل الفن والتعليم والقانون، مؤكدا التزامه بقيمه الديمقراطية والعلمانية وصون مجتمعه من اي محاولات للسيطرة الأيديولوجية. إنه صراع مستمر، ولكنه يؤكد على أن حماية الهوية الأوروبية وقيمها هو هدف مشترك تسعى إليه كافة الدول.
aXA6IDIxNi43My4yMTYuMTg5IA== جزيرة ام اند امز