يعيش السودان لحظةً تاريخيةً فارقة؛ فبين أنين الحرب المشتعلة وصيحات الملايين من الضحايا والنازحين، تتبدّى خارطة طريق جديدة قد تضع حدًّا لهذا النزيف المستمر.
المبادرة التي طرحتها الرباعية - المكوّنة من الولايات المتحدة والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية ومصر - جاءت كصيغة متماسكة لوقف الانهيار، تبدأ بهدنة إنسانية لثلاثة أشهر، يليها وقف دائم لإطلاق النار، ثم مرحلة انتقالية تمهّد لحكومة مدنية خلال تسعة أشهر.
غير أنّ هذه الوصفة، على وجاهتها، تواجه خطرًا محدقًا: خطر تسلّل جماعة الإخوان المسلمين، المعروفة في السودان بـ "الكيزان"، الذين يسيطرون على الجيش ويقبضون على زمام السلطة في بورتسودان.
لقد سارعت مفوضية الاتحاد الإفريقي والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد) إلى الترحيب بمبادرة الرباعية، وأعلنت المفوضية نيتها عقد اجتماع يضم الاتحاد الأفريقي والإيغاد وجامعة الدول العربية والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، لبدء مشاورات مع المجموعات السودانية، في محاولة لتعبيد الطريق نحو حوار سوداني/سوداني شامل، وانتقال إلى نظام مدني دستوري.
وفي 12 سبتمبر/أيلول الجاري، أصدرت المفوضية دعوة إلى خمسين شخصية سودانية للمشاركة في مؤتمر عنوانه: "العملية السياسية"، حُدّد انعقاده في أديس أبابا خلال الفترة من 6 إلى 10 أكتوبر. غير أنّ هذه الدعوة لم تمر عبر أي قناة تشاور مع القوى الوطنية الرئيسة، ولا حتى مع قادة الدول الإفريقية الأكثر التصاقًا بالملف السوداني.
وما يزيد الأمر سوءًا أنّ المفوضية، على الرغم من إعلانها العلني دعم بيان الرباعية، تثير مخاوف حقيقية من أنها قد تسعى إلى إفراغ المبادرة من مضمونها، وربما تقويضها بالكامل. والمؤشرات على ذلك عديدة ومقلقة.
أول هذه المؤشرات أنّ قائمة المدعوين ضمّت عشر شخصيات فقط من التحالف المدني الديمقراطي لقوى الثورة (صمود) الذي يترأسه رئيس الوزراء السابق الدكتور عبد الله حمدوك، فيما مُنحت الأربعون بطاقة المتبقية لشخصيات مرتبطة بالجيش والكيزان. وهذه هي القوى ذاتها التي استُخدمت لإجهاض الحكم المدني في انقلاب 25 أكتوبر 2021، وها هي تعود في ثوب جديد لإعادة إنتاج الأزمة نفسها ومحاولة إجهاض مبادرة الرباعية.
أما المؤشر الثاني فهو أنّ بيان الرباعية نصّ بوضوح على استبعاد الإخوان المسلمين وواجهاتهم، وكذلك استبعاد طرفي الحرب. غير أنّ دعوة المفوضية لأشخاص ومجموعات تابعة للجيش والكيزان تشكّل خرقًا صارخًا لهذا النص. بل إنّ مصادر موثوقة أفادت بأن الأربعين شخصية اختيرت مباشرة عبر مكتب الفريق عبد الفتاح البرهان، القائد العام للجيش. وهكذا تبدو العملية مصمّمة بالكامل لمصلحة بورتسودان، لا لمصلحة الشعب السوداني.
أما المؤشر الأخطر فهو خفة المفوضية وتسرّعها في محاولة استباق الأحداث واختطاف المبادرة، بوضع "العربة أمام الحصان". فالأولوية الملحّة، كما نصّت عليها الرباعية، هي هدنة إنسانية توقف القتال وتنقذ الأرواح. أمّا الدخول في حوار سياسي متعجّل في هذه اللحظة، وبهذه الجماعات والشخصيات المشبوهة، فهو مسعى يثير الريبة، ويضع علامات استفهام حول حيادية المنبر الإفريقي وجدّيته.
إنّ السودانيين يعلّقون آمالهم على المجتمع الدولي، وعلى الرباعية خصوصًا، وعلى الإمارات والسعودية على وجه أخص، نظرًا لجهودهما المضنية في دفع مسار السلام . غير أنّ هذه الجهود لا ينبغي أن تقتصر على تسهيل التفاوض، بل يجب أن تشمل الرعاية الدقيقة للعملية بأكملها، بدءًا من تمحيص قوائم المشاركين، والتدقيق في خلفياتهم وتحالفاتهم. فهذا هو المدخل الأخطر الذي يتسلل منه "الشيطان" لإعادة إنتاج الأزمة، عبر تسويات تمنح الشرعية لجماعة الإخوان (الكيزان) التي صنعت الانقلاب وأشعلت فتيل الحرب.
المعادلة واضحة وضوح الشمس: إذا نجح الكيزان في اختراق أي مفاوضات مقبلة، فسيتحوّل السلام إلى محطة قصيرة لالتقاط الأنفاس قبل جولة أكثر شراسة من الصراع. أما إذا تمت مراقبة العملية بدقة، وضُبطت بوابة المشاركة لإقصاء هذه القوى، فإنّ السودان قد يحظى بفرصة نادرة لاستعادة مساره المدني، بعيدًا عن هيمنة الإسلام السياسي وتحالفاته المسلحة.
إنّ الأولوية القصوى اليوم ليست في توزيع المقاعد على موائد التفاوض، بل في وقف النزيف فورًا. فالحاجة ملحّة لفرض هدنة إنسانية بين الأطراف المتصارعة لمعالجة الاحتياجات العاجلة لملايين المدنيين، ومن ثم تهيئة المناخ لحوار وطني حقيقي.
وهذا الحوار لا بدّ أن يشارك فيه الفاعلون المدنيون والسياسيون الحقيقيون، لا الواجهات المصطنعة، وتحت إشراف إفريقي أعلى وأكثر مسؤولية، ورقابة دولية فعّالة، ومتابعة لصيقة من الإمارات والسعودية اللتين تحظَيا بثقة طرفي الصراع واحترام القوى السياسية السودانية الحقيقية.
إنّ اللحظة الراهنة في السودان هي لحظة اختبار: اختبار لجدّية الفاعلين الدوليين في استخلاص العبرة من دروس الماضي. فهل سيتجاوزون تساهلات الماضي، التي منحت الإخوان استراحة فانقلبوا وأشعلوا حربهم المدمّرة؟ أم أنّنا أمام إعادة إنتاج لسيناريو مأساوي اعتدناه، حيث تُترك البلاد رهينة جماعة حربائية بارعة في التلوّن، ثابتة في مشروعها السلطوي؟
ذلك هو السؤال الكبير الذي يواجه الضمير الدولي اليوم: إمّا أن يُفتح باب حقيقي للسلام، أو يُترك السودان فريسةً للإخوان يقودونه إلى دائرة جهنمية من الحروب والانقلابات.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة