تتسارع الأحداث في الجنوب العربي بوتيرة تجعل هذه المرحلة علامة فارقة في تاريخ المنطقة، حيث تتشابك المتغيرات الإقليمية والدولية لتضع الجنوبيين أمام منعطف مصيري.
وقد لفت انتباهي ما كتبه اللواء الركن أحمد سعيد بن بريك، نائب رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي (محافظ محافظة حضرموت الأسبق) هذا الأسبوع، والذي يفتح أبواب التأمل في طبيعة المستقبل القريب، ويؤكد أن القيادة الجنوبيّة مطالبة برؤية واقعية، وإرادة سياسية متينة، ومشروع وطني جامع قادر على مواجهة التحديات وعبور المرحلة بثبات.
حديث بن بريك يعكس إدراكا عميقا لطبيعة المرحلة المقبلة، فالقيادة يجب أن تتجاوز الشخصنة إلى رحابة المشروع الوطني، ورجال الدولة عليهم أن يملكوا الخبرة والوعي، واستراتيجية تنطلق من قراءة دقيقة للمشهد الدولي والإقليمي. هكذا فقط تتشكل صورة الجنوب ككيان متماسك، يمتلك رؤية سياسية واقتصادية وإعلامية قادرة على بناء الثقة داخليا وخارجيا.
العين الأخرى المراقبة، كانت على مشاركة الرئيس عيدروس الزُبيدي، رئيس المجلس الانتقالي الجنوبي، في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة لتؤكد حضور الجنوب في قلب المعادلة الدولية. هذا الظهور يعكس مكانة الجنوب كركن أساسي في صياغة مستقبل البلاد، ودور محوري في تحديد مسار التسوية السياسية القادمة. ويمكنني القول بأن المجلس الانتقالي الجنوبي يقدم نفسه للمجتمع الدولي كقوة سياسية منظمة تحمل مشروعا واضحا يستند إلى قاعدة جماهيرية واسعة، مدعومة بقدرة عسكرية وأمنية أثبتت صلابتها في الميدان.
الحضور الجنوبي في الأمم المتحدة، وفي المحافل الدولية، يتجاوز التمثيل الرمزي، إذ يعكس اعترافا متناميا بمكانة الجنوب كفاعل رئيسي في أي تسوية سياسية عادلة. ومن هنا، لا تبدو مجرد أمنيات أو أحلام أن يصبح الجنوب العربي فعلا جزءا أصيلا من صناعة القرار في المنطقة، ويطرح رؤيته الواضحة حول الشراكة وتقرير المصير وضمان الاستقرار الإقليمي.
اللافت أن هذه المشاركة جاءت متزامنة مع قرارات داخلية اتخذها الرئيس الزُبيدي وصفتها في مقالي السابق بأنها محطة مفصلية، إذ أسست لمسار سياسي جديد يعيد ترتيب البيت الداخلي، ويؤكد أن الجنوبيين يملكون الإرادة لبناء مؤسسات الدولة واستعادة قرارهم المستقل. الهجوم الذي واجهته هذه القرارات من الإخوان الفاسدين في اليمن الشمالي، جاءت عكس أهدافهم المكشوفة، فقد أضاءت حقيقة مبهرة أن الجنوب العربي يقترب أكثر من أي وقت مضى من لحظة استعادة الدولة المسروقة منذ الوحدة الفاشلة عام 1990.
علينا أن ندقق ونتأمل هذه المرحلة من تاريخ الجنوب بعمق شديد، حيث لا يمكن إغفال الدور التاريخي لدول التحالف العربي، وفي مقدمتهم المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة. فالدعم السعودي الأخير للموازنة، الذي أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي عهده الأمير محمد بن سلمان، لشعبي اليمن الشمالي والجنوب العربي، يؤكد عمق الشراكة التاريخية والمصيرية مع الشقيقة الكبرى، وكذلك فإن استمرار الدعم الإماراتي على الأرض في شتى المجالات، من البنية التحتية إلى الصحة والتعليم، وآخرها وصول أجهزة متطورة لمستشفيات شبوة، وغيره الكثير من الدعم الإماراتي غير المنقطع، يؤكد أن الجنوب، صديق وشريك مخلص، لم يخذل دول التحالف أبدا، وأنه يحمل أمانة الاستقرار والتنمية وماض نحوها بكل ثقة.
في التاريخ المقارن، أرى أن مسار الجنوب العربي اليوم لا ينفصل عن التجارب العالمية الكبرى التي مرت بمراحل مشابهة. فالتشيك وسلوفاكيا قررتا في عام 1993 الانفصال بسلام بعد تجربة وحدة لم تحقق التوازن، فتحولت إلى دولتين مستقلتين، ناجحتين ومستقرتين. وفي عام 1971، اختار شعب بنغلاديش الاستقلال عن باكستان بعد عقود من التهميش الاقتصادي والسياسي، فأسس دولته التي انطلقت سريعا في مسيرة النمو، أما كوسوفو، التي أعلنت استقلالها عام 2008، فقد كسرت القيود التاريخية وأصبحت حقيقة سياسية رغم اعتراضات البعض، لأنها عبرت عن إرادة شعبية صلبة.
وقبلها، سطرت إريتريا تجربة فريدة عام 1993 حين نالت استقلالها بعد عقود من الكفاح ضد هيمنة أديس أبابا، لتثبت للعالم أن الشعوب التي تصر على الحرية تنجح مهما طال الزمن. كما أن تيمور الشرقية، بعد عقود من الاحتلال الإندونيسي، نجحت عام 2002 في أن تصبح دولة معترفا بها، لتؤكد بدورها أن إرادة الشعوب تصنع التاريخ.
كل هذه الأمثلة تضع الجنوب العربي في إطار عالمي: شعب يملك إرادة صلبة، وتجربة قاسية، ورؤية واضحة لمستقبله، فيتحرك بثقة نحو تحقيق أهدافه الوطنية.
لابد لي من توجيه رسالتي التي تعلمتها في مدارس الإعلام الإماراتية العريقة، وهي أن الخطاب الإعلامي الجنوبي، يحتاج إلى المزيد من العقلانية والحكمة، في ظل هذه اللحظات التاريخية، وعليه أن يقدم الطمأنينة للداخل ويعكس صورة متزنة للخارج. فالمجتمع الدولي يتعامل مع من يطرح خطابا مسؤولا، يعزز الثقة ويظهر الجنوب شريكا ناضجا في الإقليم والعالم. كذلك، يظل الحوار الوطني هو الركيزة الأساسية، إذ لا بناء لدولة حديثة من دون إشراك المكونات السياسية والاجتماعية كافة، وتحويل الحلم إلى مشروع جامع يعبر عن الشعب بكل فئاته.
إن الجنوب اليوم يعيش مرحلة مختلفة عن أي وقت مضى، مرحلة عنوانها "إعادة التأسيس"، فلديه اليوم قيادة سياسية تحظى بدعم شعبي واسع، كما لديه حلفاء إقليميون لهم مكانة دولية رفيعة، وأن دائرة الاعتراف العالمي باستعادة الدولة على حدود العام 1990، تتسع يوما بعد يوم.
وكما لا ينسى الجميع، وقفتي المثابرة منذ ما قبل اتفاق الرياض، وحتى تمامه، كما يذكرني البعض دائما، فإنني أرى وأدعم بصوتي الخطوات الواثقة نحو استعادة دولة الجنوب العربي، ولا أنكر أنها مسيرة محفوفة بالتحديات، لكنها مسيرة تُصنع بالتضحيات والإرادة والإصرار، كما صنعتها شعوب أخرى عبر التاريخ. ومع كل تحول إقليمي ودولي، سيتأكد أن صفحة جديدة من تاريخ الجنوب تُكتب اليوم بحبر الإرادة الشعبية، وبإرث الشهداء، وبأمل الأجيال القادمة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة