«زلزال» في بروكسل و«هزة ارتدادية» بباريس.. أوروبا إلى اليمين دُر
لطالما عُرف الاتحاد الأوروبي، لفترات طويلة، بأنه معقل للقيم الليبرالية، لكن ليلة الأحد ربما تشكل عصرا جديدا في أروقة التكتل.
وشهدت الانتخابات الأوروبية التي جرت من 6-9 يونيو/حزيران الجاري، صعود تيار اليمين المتطرف في عدد من الدول، محدثا زلزالا سياسيا في فرنسا التي أعلن رئيسها إيمانويل ماكرون حل البرلمان والدعوة لانتخابات، لكن من دون الإخلال بالتوازن السياسي في بروكسل.
ورغم النتائج القوية التي وصفها مراقبون بالقاسية، فإن مكاسب اليمين المتطرف لا تمثل تذكرة للوصول إلى السلطة، فلا يزال ائتلاف أحزاب يمين الوسط الأوروبي هو أكبر مجموعة في البرلمان ويمكنه التعاون مع تيار يسار الوسط السائد.
وفي خطاب ألقته في وقت متأخر من مساء الأحد، قالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين إن النتائج أظهرت أن حزب الشعب الأوروبي الذي تتزعمه، والذي من المتوقع أن يحصل على أكبر عدد من المقاعد، لا يزال بإمكانه العمل "كمرساة للاستقرار"، لكنها دعت حلفاءها السياسيين إلى المساعدة في الحماية من الأحزاب المتطرفة.
ووفق نتائج أولية للانتخابات التي جرت في جميع أنحاء الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي البالغ عددها 27 دولة، فإنه من المتوقع أن تفوز الأحزاب اليمينية المتطرفة بحوالي 150 مقعدا من مقاعد البرلمان البالغ عددها 720.
وستظهر النتائج النهائية، اليوم الإثنين، ما يدشن عملية بناء التحالفات في الوقت الذي يسعى فيه الوسطيون في أوروبا إلى تنحية خلافاتهم جانبا من أجل التغلب على صعود اليمين المتطرف.
نتائج كبيرة
وتركزت معظم مكاسب اليمين المتطرف في الدول التي تنتخب أعدادا كبيرة من المقاعد، وهي فرنسا وإيطاليا وألمانيا.
ومع بدء ظهور النتائج الأولية التي أظهرت أن حزب التجمع الوطني اليميني المتطرف بزعامة مارين لوبان، سيهزم مرشحي الكتلة الرئاسية، قام ماكرون بحل برلمانه والدعوة إلى انتخابات مبكرة محفوفة بالمخاطر، على أن تجرى الجولة الأولى في 30 يونيو/حزيران والثانية في السابع من الشهر التالي.
ومثل ماكرون، تعرض المستشار الألماني أولاف شولتز أيضا لضربة موجعة، حيث سجل الحزب الديمقراطي الاشتراكي أسوأ نتيجة له على الإطلاق بنسبة 14٪، وحل في المرتبة الثالثة خلف البديل لأجل ألمانيا اليميني المتطرف "حل ثانيا/ 16%".
في إيطاليا، تصدّر حزب "إخوة إيطاليا" اليميني المتطرف الذي تتزعمه رئيسة الوزراء جورجيا ميلوني، النتائج بنسبة 25 إلى 31% من الأصوات، وفق استطلاعات رأي مختلفة.
أيضا في النمسا، حصل "حزب الحرية" اليميني المتطرف على ما يقرب من 26% من الأصوات، وعزز الهولنديون الذين كانوا أول من أدلوا بأصواتهم الخميس، موقف حزب خِيرت فيلدرز اليميني المتطرف.
وفي إسبانيا، أظهرت النتائج الرسمية حصول الحزب الشعبي اليميني، التشكيل الرئيسي للمعارضة الإسبانية، على 22 مقعدا في البرلمان الأوروبي مقابل 20 للاشتراكيين بزعامة رئيس الوزراء بيدرو سانشيز، وحقق حزب فوكس اليميني المتطرف تقدما بحصوله على 6 مقاعد.
أما في بولندا، فقد تقدم الحزب الوسطي المؤيد لأوروبا بزعامة رئيس الوزراء دونالد تاسك على حزب القانون والعدالة القومي الشعبوي، لكن الأخير حافظ على قسم هام من الأصوات.
لكن اليمين المتطرف منقسم في البرلمان الأوروبي إلى كتلتين لا يزال تقاربهما غير مؤكد بسبب خلافات كبيرة بينهما، خاصة في ما يتعلق بروسيا.
"لا يمكن جمعها"
يرى سيباستيان ميلار من معهد جاك ديلور في حديث لوكالة "فرانس برس"، أن "أصوات اليمين المتطرف واليمين السيادي لا يمكن جمعها معا، وهذا سيحد من وزنهما المباشر في المجلس التشريعي".
ويضيف أن "صعود اليمين المتطرف الواضح خصوصا في فرنسا، سيؤثر حتما على المناخ السياسي الذي تعمل فيه المفوضية، وسيتعين على الغالبية أن تأخذ ذلك في الاعتبار". مشيرا إلى أنه "في حال الفشل في التأثير بشكل مباشر، سيكون اليمين المتطرف قادرا على التأثير بشكل خبيث".
وبينما يتبنى أعضاء البرلمان الأوروبي تشريعات بالتنسيق مع الدول الأعضاء، يمكن لليمين المتطرف أن يجعل صوته مسموعا في القضايا الحاسمة: الدفاع ضد روسيا التوسعية، والسياسة الزراعية، والهجرة، والهدف المناخي لعام 2040.
استفتاء؟
في حين أن النتائج ستشكل الاتجاه السياسي للاتحاد الأوروبي على مدى السنوات الخمس المقبلة، فإن هذه المجموعة من الانتخابات الوطنية غالبا ما ينظر إليها على أنها استفتاء فعلي على الحكومات المحلية الحالية.
ويقول مراقبون إن الكثير تغير في أوروبا منذ الانتخابات الأوروبية الأخيرة في عام 2019، بعد أن غادرت بريطانيا الكتلة في 2020، وشنت روسيا حربها على أوكرانيا في 2022، مما وضع القارة في وضع استنفار، وحرك دعم غير مسبوق لكييف.
ورغم زلزال اليمين المتطرف، تبقى الغالبية مشكّلة من أحزاب "الائتلاف الكبير" الوسطي الذي يضم اليمين (حزب الشعب الأوروبي)، والاشتراكيين الديمقراطيين، والليبراليين (تجديد أوروبا)، والذي تحصل عادة في إطاره التسويات في البرلمان الأوروبي.
ومع 184 مقعدا متوقعا لحزب الشعبي الأوروبي و139 للاشتراكيين الديمقراطيين و80 لـ"تجديد أوروبا" (رينيو يوروب) تشكل هذه الكتل الأغلبية، مع جمعها 403 مقاعد من أصل 720.
ووفق التقديرات التي نشرها البرلمان الأوروبي الأحد، فإن حزب الشعب الأوروبي سيحصل على 191 مقعدا، والديمقراطيون الاشتراكيون 135 مقعدا وحزب تجديد أوروبا 83 مقعدا. ويتوقع أن ينخفض عدد مقاعد الخضر إلى 53 مقعدا (مقارنة بأكثر من 70 حاليا).
مناورة ميلوني
إلى ذلك، أكدت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، أمس، الأحد، أن "حزب الشعب الأوروبي هو أقوى مجموعة سياسية (...) وهذا مهم، سنبني حصنا ضد متطرفي اليسار واليمين، وسنوقفهم".
وفون دير لاين مرشحة لشغل المنصب مجددا، ويتعين عليها الحصول على موافقة زعماء الدول الأعضاء ثم غالبية أعضاء البرلمان الأوروبي الذين منحوها ثقتهم في عام 2019 بغالبية ضئيلة للغاية (9 أصوات).
وكانت رئيسة المفوضية الأوروبية قد توددت إلى رئيسة الوزراء الإيطالية وحزبها قبل أيام، وقالت إنها ترى في الأخيرة "شريكا مناسبا مؤيدا لأوروبا وأوكرانيا"، ما أثار استياء الليبراليين والاشتراكيين وكذلك الخضر.
في هذا الصدد، تساءل رئيس كتلة الخضر في البرلمان الأوروبي باس إيكهوت "هل سندعم أورسولا فون دير لاين؟ من السابق لأوانه الحسم. من الواضح جدا أننا مستعدون للتفاوض"، لكن بشرط "استبعاد أي تقارب مع ميلوني".
فيما أكدت رئيسة الوزراء الإيطالية، التي ترأست قائمة حزبها في هذه الانتخابات، أنها تريد "الدفاع عن الحدود بوجه الهجرة غير النظامية، وحماية الاقتصاد الفعلي، ومكافحة المنافسة غير النزيهة".