إلى اليمين دُر.. أوروبا تجنح للشعبوية في طريق يهدد الديمقراطية
كبقعة زيت تتسع مع كل استحقاق انتخابي تقريبا، وعلى وقع أزمات متفرقة، تواصل التيارات اليمينية المتطرفة في الدول الأوروبية زحفها نحو مواقع الحكم.
وفي أحدث حلقة بهذه السلسلة أثار فوز جورجيا ميلوني، زعيمة أكثر الأحزاب اليمينية تطرفا في إيطاليا منذ عهد موسوليني بالانتخابات البرلمانية، تساؤلات حول مستقبل الديمقراطية التي يبدو أن نجمها بات يأفل تدريجيا في أوروبا.
وما بين أزمات السياسة كالهجرة واللجوء والصراعات الدولية، وأزمات الاقتصاد كنقص إمدادات الطاقة وارتفاع تكاليف المعيشة، إلى جانب أزمة الهوية التي خلقتها العولمة والنظام الجديد في إدارة العالم، يفرض سؤال محوري نفسه، وهو لماذا تجنح صناديق الاقتراع إلى اليمين في كبرى العواصم الأوروبية؟.
وبصيغة أخرى" ما أسباب تراجع التيارات الديمقراطية التي ظلت مسيطرة على عملية صناعة واتخاذ القرار الأوروبي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية؟.
وللإجابة عن السؤال السابق، يلزم معرفة العوامل المؤثرة على اتجاهات السياسة في أوروبا منذ مطلع الألفية الجديدة، ولا سيما بعد تنامي مهددات الأمن القومي وظهور التنظيمات الإرهابية عالية التنظيم والتمويل، وتحديدا بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول.
تهديدات وجودية
تاريخيا، أثبتت التجارب أن التهديدات الخارجية، خصوصا الوجودي منها، تدعم النزعات القومية، وتعزز نفوذ التيارات اليمينية بصفتها قوة بديلة قادرة على الاصطفاف في وجه الخطر والتصدي للتهديد.
في الفترة الأخيرة مثلا، ومع تداعيات جائحة كورونا على اقتصاد العالم وفي القلب منه الاقتصاد الأوروبي، وكذلك مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وما تمثله من خطر على أمن القارة العجوز، تزايد نفوذ القوى اليمينية في أوروبا، وسط دعوات للانغلاق على الذات في سبيل الإنقاذ، وتصاعدت خطابات الكراهية ضد كل ما هو أجنبي.
مؤشرات صادمة
تتمثل أبرز مؤشرات صعود التيارات الشعبوية في فوز أحزاب يمينية بالانتخابات في بعض الدول الأوروبية، ورغم أن التقديرات كانت تشير إلى أن الحرب الروسية الأوكرانية ستؤدي إلى غلبة التيار الليبرالي الحقوقي لكونه أشد التيارات مناهضة للحكومات ذات النزعة الشعبوية التي ينتمي لها سيد الكرملين فلاديمير بوتين؛ غير أن النتائج جاءت مخيبة للتوقعات، فالانتخابات التي جرت مؤخرا في المجر وصربيا، ثم السويد، وختاما إيطاليا أكدت تنامي الظاهرة.
فانتخاب الزعيم المحافظ "فيكتور أوربان" رئيساً لوزراء المجر لولاية رابعة على التوالي بحصوله على 53% من الأصوات ضد كتلة معارضة موحدة تتكون من ستة أحزاب ديمقراطية، وكذلك إعادة انتخاب الرئيس الصربي "ألكسندر فوتشيتش" بنسبة 60% من الأصوات، يعكس استمرار جاذبية الخطاب اليميني في أوروبا.
ولم تقتصر المؤشرات المرجحة لصعود اليمين المتطرف في أوروبا على الأحزاب الفائزة في الانتخابات فحسب، بل امتدت أيضاً لتشمل تزايد نفوذ بعض الوجوه اليمينية المؤثرة في الدول الأوروبية الكبرى.
ولعل أهم هذه الأمثلة هو نجاح "مارين لوبان" مرشحة حزب "التجمع الوطني" اليميني المتطرف في الوصول إلى الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية الفرنسية التي عُقدت في شهر أبريل الماضي، مع خسارتها أمام إيمانويل ماكرون في الجولة الثانية بعد تذليل الفارق بينهما مقارنة بانتخابات 2017.
هذا يؤكد استمرار صعود أسهم الزعيمة اليمينية المتطرفة، التي فاز حزبها بـ89 مقعداً في الانتخابات البرلمانية يونيو/حزيران الماضي، كفلت له المشاركة بوصفه من قوى المعارضة الرئيسية في المشهد السياسي الفرنسي.
وفي بريطانيا، وعلى الرغم من ضعف التيارات اليمينية تنظيميا، أظهرت بعض استطلاعات الرأي أن عدد الذين يتبنون أفكار اليمين يتزايد بصورة كبيرة نتيجة لبعض العوامل الداخلية منها تصاعد موجة العنف العنصري ضد أصحاب البشرة السمراء Black Lives Matter [BLM]، وصعود الخطاب المناوئ للإسلام داخلياً.
كما شهدت العديد من الدول الأوروبية في الفترة الأخيرة اتجاها لتفضيل اعتبارات الأمن الفردي على حساب الديمقراطية الجماعية، وهو مؤشر على الميل نحو النزعة القومية التي تتغذى عليها التيارات الشعبوية.
محددات رئيسية
بالرغم من تعدد مؤشرات صعود نفوذ اليمين الشعبوي في أوروبا نتيجة الظروف الراهنة، فإن ترجمة هذه المؤشرات إلى تأثير حقيقي تبقى مرهونة ببعض العوامل الظرفية، تتجسد في مدى تصديق الناخبين لخطابات زعماء اليمين الشعبوي،
وتزامن تأثر قطاعات معينة من الناخبين بموجات الهجرة والنزوح، مع عقد الانتخابات في ظل استمرار الحرب الأوكرانية، وأثرها على توازنات القوى الحزبية حيث تقدم أحزاب اليمين الشعبوي نفسها على أنها بديل يعتمد عليه.
ومن بين الدول التي تعقد الانتخابات فيها في الربع الأخير من العام الجاري، تأتي بلغاريا ولاتفيا بعد السويد وإيطاليا، بينما تعقد الانتخابات خلال العام القادم في كل من سويسرا وإسبانيا وبولندا ولكسمبورج واليونان، ما يشير لاحتمال استمرار صعود التيارات اليمينية وفوزها بالانتخابات في هذه الدول ما لم تتوقف الحرب، أو لم تنجح الحكومات الحالية في رسم خارطة فعالة للتعافي الاقتصادي السريع.
بيئة خصبة وتربة مالحة
هناك دول أوروبية تمثل أرضاً خصبة لتنامي نفوذ التيارات اليمينية، مثل فرنسا وإيطاليا بحسب دراسة أعدها مركز إنتريجونال للدراسات.
وعلى النقيض تماما، توجد دول أخرى لا تستطيع فيها هذه التيارات أن تترجم أي ظرف دولي مساعد إلى تأثير حقيقي؛ نظراً إلى ضعف وجوه التيار في هذه الدول، وعدم وجود تقاليد تنظيمية راسخة لهذا التيار على أرض الواقع، ومن ثم ضعف التأييد الواسع له في أي فئة من فئات الناخبين.
ولعل من أمثلة هذه الدول الأخيرة بريطانيا والدول الإسكندنافية؛ لذلك فإن الوزن النسبي لهذه الأحزاب في المشهد السياسي العام في كل دولة من الدول الأوروبية من شأنه حسم مسألة مدى ترجمة الظروف الدولية إلى تأثير حقيقي للتيارات الشعبوية من عدمه.