قد تكون أوروبا أحوج القارات إلى صرخة مدوية توقظها من غفلتها ومن الزمن الأمريكي الذي يسعى لابتلاعها.
تاريخها الحضاري والثقافي والسياسي يشفع لها إن هي أطلقت صرختها. موقعها الجيوسياسي والجيواستراتيجي يمدها بدفق دماء في شرايينها الممتدة حتى آخر تخوم البسيطة شمالا. بصماتها ماثلة على أربع جهات الأرض شاهدة على نهوضها الأول، نهضتها المتنوعة ظلت أنموذجاً يتغنى الطموحون بمضامينه وفرادته.
هل يكفي صوت أوروبي بمفرده لإيقاظ أقرانه على اتساع القارة الأوروبية المتمددة اليوم شرقا حتى تخوم صفيح اللهيب الروسي الأوكراني؟ هل صرخة كهذه يمكن أن تكون بمثابة طَرْقٍ عاصف على ناقوس كإشارة إلى خطر يتزايد مع إشراقة كل صباح؟.
أيُّ إيحاءات حملتها مواقف الرئيس الفرنسي وآراؤه قبل أكثر من شهر عقب لقائه الرئيس الصيني في بكين حين انتفض من أجل استقلالية قارته ومطالبته بضرورة إنهاء هيمنة الولايات المتحدة على قرارها السياسي وتساءل "لماذا علينا اتباع الإيقاع الذي يختاره الآخرون"؟.
صدارة النموذج الصيني بجميع مكوناته تجاوزت قدرة القادة الغربيين على اللحاق به، أو مجاراته، أو الحد من تأثيراته الناعمة بعد أن تغلغل في تفاصيل بلدانهم ومؤسساتها، وأسهم في تشكيل جزء كبير من أذواق شعوب الغرب واستولى على اهتماماتهم فبات جزءا من معالم قارتهم وحياتهم.
تختزل مواقف ماكرون تلك صورة المشهد الفرنسي والأوروبي بشكل دقيق. مكاشفة مع الذات ومع الأقران الأوروبيين غير مسبوقة. أهي فعلا صدى لمكبوت فرنسي حيث جاء صوته وحيدا؟ أم أنه تعبير عن ما يجيش في صدور الأوروبيين الذين وجدوا أنفسهم بين مطرقة الحرب الأوكرانية وسواعد مشعليها التي لا تفتر، وبين سندان واقع عالمي يتشكل بعيدا عن اعتبارهم قوةً مستقلة ؛ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً واستراتيجياً؟.
للزعيم الفرنسي الراحل شارل ديغول مقولةٌ أثيرة في نفوس الساسة الأوروبيين وشعوبهم : "للعربة الأوروبية حصانان يقودانها : فرنسا وألمانيا"، وقد جسّدها فعلا وقولا وعملا، واهتدى بها ساسة البلدين ردحاً من الزمن.
من الطبيعي ألا تغيب هذه المقولة عن ذهن سيد الإليزيه، بل ربما تكون أحد مسببات نوبة انتفاضته.
الحصان الذي كان لباريس صنواً في جر العربة الأوروبية افترق عنها، اختار طريقا ربما وجده ملبيا لنوازعه، محاكيا لنزعات كامنة في دهاليز النفس الألمانية منذ سبعة عقود ونصف. حضور وقوة القارة الأوروبية وتأثيرها اليوم لا يقاس بجغرافية تتمدد وتتوسع طالما أن اتساعها لا يأتي من فعل ذاتي إرادي ، أومن تخطيط ووعي سياسي مستقل الدوافع والغايات.
هل بدأ تبرم الأوروبيين من سطوة الولايات المتحدة على خياراتهم يتصاعد، أم هي مجرد سحابة صيف عابرة ؟.
التعبير عن هواجس قلق الأوروبيين يتنامى بوضوح، التجربة الأوكرانية لم تنجل اتجاهاتها ونتائجها الحاسمة بعد.
إذا كانت أكثر التوقعات صعوبة على الأوروبيين تكمن في ضبابية مساراتها ونهاياتها، فإن أعمق التأثيرات على مستقبلهم يتضح بانقياد النظام السياسي الأوروبي بغالبيته للإيقاع الأمريكي في الصراع مع روسيا عبر الساحة الأوكرانية وارتهان جوانب واسعة من مقدراتهم لمتطلباتها، على أن البعد الآخر في ثناياها بدت آثاره تتضح في تصدع الوحدة السياسية للقارة الأوروبية رغم محاولات عدد من قادتها الإيحاء بتماسكها.
الاعتماد على خيارات مستقلة لنسج علاقاتهم مع العالم الجديد بعيدا عن مؤثرات الرياح الأمريكية وهبوبها يواجه تحديين كبيرين، أولهما ذاتي ينبع من ظاهرة الافتراق في مقاربات الساسة الأوروبيين للعلاقات مع واشنطن وأولوياتها من جهة، ومصالحهم مع الصين وروسيا من جهة أخرى، وثانيهما نجاح الولايات المتحدة الأمريكية في ترسيخ مفهوم مظلتها الدفاعية النووية وغير النووية لأوروبا كمبدأ أساسي لحمايتها بعد أن أمسكت بكامل خيوط اللعبة على المسرح الأوروبي منذ تفجر النزاع الروسي الأوكراني.
الأسئلة تم تدوينها على صفحات القادة الأوروبيين، ولهم وعليهم اختيار الإجابات الملائمة.
مواكبة التغييرات والتحولات على الصعيد العالمي تقتضي إعادة القراءات والاستهداء بالمصالح، وما حديث بعض قادة أوروبا بين الفينة والأخرى عن موضوع تايوان وما يُنسج من حولها، إلا تنبيهٌ استباقي لغدٍ لا تزال ملامحه بظهر الغيب.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة