الحقيقة الأكثر إثارة للاهتمام -بين سلسلة الحقائق الجديدة التي أفرزها نزاع روسي مع أوكرانيا- تتجلى في تفعيل دول غربية منضوية تحت راية "الناتو" نزعة التسليح الذاتي.
كذلك رصد ميزانيات هائلة لدعم هذه السياسة وتعزيز القطاعات العسكرية، كما الحال في ألمانيا، التي ظلت منذ هزيمتها في الحرب العالمية الثانية بلا جيش رسمي، باستثناء قوات رمزية لحماية حدود البلاد.
واستمر الأمر هكذا نحو عشر سنوات إلى أن صادق البرلمان "البوندستاغ" عام 1956 على إنشاء جيش جديد وصل عدده إلى نحو نصف مليون عسكري دون السماح له بالمشاركة في أعمال قتالية في ساحات خارجية، إلا بما يمليه التزامه بمصالح الحلف.
ألمانيا ليست الوحيدة في القارة الأوروبية، التي لجأت إلى الاستثمار في القطاع العسكري، رغم أنها صاحبة الدعم المالي الأكبر لهذا القطاع، بما خصصته من مبالغ إضافية تزامنا مع تطورات الأزمة الأوكرانية عسكريا.
عملية العسكرة الغربية ليست وليدة الأزمة، لكنها اتخذت منحى تصاعديا مع ارتفاع منسوب التوتر والقلق جراء النزاع على الحدود الشرقية للقارة. فتخصيص ميزانيات إضافية لرفد الجيوش بآخر مبتكرات ومنتجات معامل السلاح العالمية بات حديث الساسة الأوروبيين.
آخر تقرير سنوي لمعهد ستوكهولم لبحوث السلام صدر في الرابع من شهر مارس الماضي، توقع أن تعزز أوروبا تسلحها وتُسرّعه في مواجهة ما وصفه "التهديد الروسي الجديد".
"سيمون وايزمان"، أحد واضعي التقرير، اعتبر أن "أوروبا هي النقطة الساخنة الجديدة"، وبالتالي ستزيد إنفاقها العسكري بشكل كبير لأنها بحاجة إلى كميات كبيرة من الأسلحة الجديدة.
ويلفت التقرير إلى أن تراجع تجارة الأسلحة في العالم بين 2017 و2021 بنسبة 6.4% عن السنوات الخمس السابقة واكبه ازدياد بنسبة 19% في القارة الأوروبية وحدها.. وحصة أوروبا في التجارة العالمية للأسلحة ارتفعت من 10% إلى 13% خلال السنوات الخمس الأخيرة، مع توقع استمرارها في الارتفاع بشكل كبير.
تقرير معهد ستوكهولم لم يأت بجديد على خارطة ترتيب الدول المتصدرة لتجارة السلاح، فجاءت الولايات المتحدة على رأس القائمة، تلتها روسيا، فالصين، التي تقدمت خلال الأعوام الخمسة الأخيرة إلى المركز الثالث على حساب كل من ألمانيا وفرنسا.
هذه الحقيقة العسكرية المستجدة ترتبط عضويا بالحقائق الاقتصادية، التي بدأت تتبلور بانعكاساتها الضاغطة على اقتصادات المعمورة أجمع جراء حُزَم العقوبات المتتالية التي تفرضها واشنطن والدول الغربية على روسيا على خلفية النزاع مع أوكرانيا، وهي تبدو كحلقات متسلسلة لا انقطاع فيها ولا توقف.
الحقيقتان، العسكرية ببُعديها التسليحي والقتالي الميداني القائم، والاقتصادية بسلاح العقوبات، تتناغمان مع مقتضيات الحقيقة السياسية التي تتبلور هي الأخرى على صعيد العلاقات الدولية الراهنة، التي رسمت الأزمة الأوكرانية إرهاصاتها وملامحها، والتي تنذر بتحولات -وربما اضطرابات- في التوازنات الدولية مستقبلا.
تعزيز القدرات العسكرية وزيادة تسليح أو تَسَلّح أي دولة لا يعني الذهاب مباشرة إلى الحروب، لكن من شأن تنامي القدرات العسكرية لأي دولة، وتحت أي ظرف أو مبرر، أن يجعل هذا الخيار أكثر حضورا في ردهات السياسة والسياسيين، وربما يتقدم في لحظات مصيرية على ما سواه من الخيارات.
إذا كانت غالبية دول أوروبا تنضوي تحت راية الناتو، وتُظلّلها الخيمة النووية الأمريكية، فإن السؤال عن دوافع أوروبا لتعزيز ترساناتها العسكرية يصبح ملحاً، وربما يتضمن أيضا الاستفسار عن دور واشنطن في هذه السياسة وغاياتها.
لقد قدمت الولايات المتحدة البراهين الكافية على أن إدارتها للنزاع الروسي-الأوكراني تنطلق من ركيزتين استراتيجيتين، الأولى زج دول القارة الأوروبية بشكل أو بآخر في هذا النزاع ووضعها في مواجهة موسكو تحت عناوين وتسميات مختلفة عسكرية واقتصادية وأمنية وإنسانية، والركيزة الثانية تقوم على تنمية الإحساس الأوروبي بالخطر الروسي الداهم، والتحسب له والاستعداد العسكري، بحيث تكون أوروبا كتلةً عسكرية واقتصادية قادرة على الدفاع ذاتيا عن نفسها.
النظر إلى الحقائق الماثلة اليوم يشي بذلك، لكن النظر إلى تلك الحقائق من زاوية أخرى يكشف عن جانب من حقيقة ناصعة أيضاً تتمثل في أن الأوروبيين، وهم يراقبون ويتابعون مجريات النزاع الروسي-الأوكراني، ربما وصلوا إلى قناعة بأن الأمريكيين لن يقوموا بحمايتهم عند الضرورة، والمشهد الأوكراني خير مثال.
وقائع يمكن وضعها في خانة "الحقائق الاستراتيجية المستجدة"، التي بات على العالم التعامل مع حيثياتها بواقعية، ومراقبة ما قد تنتجه من تحولات دراماتيكية على المسرح الدولي.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة