سنوات بلا فوائد.. إرث "ماريو" لرئيس المركزي الأوروبي القادم
دراجي بدأ عمله رئيسا للبنك المركزي الأوروبي في 1 نوفمبر 2011، ووعد حينئذ بضمان استقرار الأسعار على غرار ما فعل البنك المركزي الألماني.
"الأفضل أن تسألوا زوجتي"، بهذه العبارة أجاب ماريو دراجي، رئيس البنك المركزي الأوروبي، على أسئلة الصحفيين عن نشاطه الاقتصادي أو السياسي المتوقع أن يمارسه بعد مغادرة منصبه أواخر أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وأثار دراجي جدلا كبيرا في أوروبا بسبب أنه لم يتم رفع الفوائد البنكية أثناء فترة رئاسته، حيث اتهمته صحيفة "بيلد" الألمانية بأنه يبتلع مدخرات الألمان بسبب سياسته المالية المعتمدة على خفض الفائدة وتيسير الاقتراض، ما فجر تساؤلات هل أصبح الآن سببا لفزع المدخرين الألمان؟ أم أنه منقذ منطقة العملة الأوروبية الموحدة (اليورو)؟
وتنوعت وسائل دراجي في حربه على الانخفاض المزمن لمعدل التضخم والركود الاقتصادي، حيث اتخذ العديد من القرارات منها فائدة صفرية، فائدة عقابية للبنوك، شراء سندات حكومية.
لم يضخ البنك المركزي الأوروبي حتى الآن، وعلى مدى مثل هذه الفترة الطويلة، أموالا رخيصة بهذه الكثرة في الأسواق.
بل إن دراجي نجح قبيل نهاية فترة توليه المنصب، والتي استمرت 8 سنوات، في اعتماد مزيد من تعزيز سياسة نقدية بالغة التساهل، في منطقة اليورو.
لا يجد دراجي ما يمكن أن يجعله يؤنب ضميره، "فشعوري هو شعور شخص حاول استخدام التفويض الممنوح له على أكمل وجه"، حسبما قال في آخر مؤتمر صحفي له كرئيس للبنك المركزي الأوروبي، الخميس الماضي في فرانكفورت.
قال دراجي إن البنك استعد عام 2017 للخروج من السياسة النقدية بالغة التساهل، "ولكن الظروف تغيرت بعد ذلك، وهو ما استدعى أن نغير سياستنا أيضا".
بدأ الإيطالي دراجي عمله رئيسا للبنك المركزي الأوروبي في الأول من نوفمبر/تشرين الثاني عام 2011، ووعد حينئذ بضمان استقرار الأسعار على غرار ما فعل البنك المركزي الألماني، وهو ما جعل صحيفة "بيلد" الألمانية تعطي "سوبر ماريو" خوذة مدببة على غرار الخوذ التقليدية لرجال الإطفاء في القيصرية الألمانية، وكانت تسعى من وراء ذلك لتذكير الرئيس السابق للبنك المركزي الإيطالي بفضائل بروسيا.
ولكن الصحيفة نفسها أصبحت الآن تشجب دراجي، متهمة إياه بأنه يبتلع مدخرات الألمان.
أكد دراجي الخميس الماضي أنه سيحتفظ بالخوذة، قائلا بالألمانية، خلافا لعادته: "هناك مثل ألماني قديم يقول: الهدية لا ترد، سأحتفظ بالخوذة".
الألمان غاضبون
ينظَر في ألمانيا، بشكل خاص، بدون استحسان للإرث الذي سيتركه دراجي، "حيث علَمَّنا الأطفال الألمان على مدى عقود أن الادخار مفيد، وذلك لأنه من الضروري التحسب للأوقات السيئة وقت الأزمات، إنكم تزيلون هذه الثقافة"، حسب انتقاد رئيس اتحاد بنوك شباركاسه الألمانية، هلموت شليفايس، في صيف عام 2019، في خطاب مفتوح لدراجي، مضيفا: "يمكن ألا ينتهي ذلك بشكل طيب على المدى البعيد"، وحذر من أن تشعر البنوك بأن هناك من يحجر عليها ويسلبها إيراداتها.
لم يعر دراجي، الذي كان في السابق تلميذا يسوعيا، اهتماما لهذا الانتقاد الدائم، حيث قال مقيما هذه السياسة في صيف عام 2017: "كانت سياستنا النقدية ناجحة".
وفي يونيو/حزيران الماضي خلص دراجي إلى أن البنك المركزي الأوروبي برهن في الأوقات الصعبة على مدى المرونة التي يمكن أن يتعامل بها.
وبالفعل أوجد رئيس المؤسسة، التي لا تنتخب بشكل ديمقراطي، حقائق على الأرض بينما كان السياسيون مختلفين فيما بينهم، حيث وعد الحارس الأعلى للعملة الأوروبية في صيف عام 2012 بأن "البنك المركزي الأوروبي سيفعل كل ما بوسعه لإنقاذ اليورو"، مضيفا: "مهما كانت تكلفة ذلك".
أدت الكلمة المطاعة لدراجي إلى إحلال الاستقرار في منطقة اليورو في أحلك أزماتها في تاريخها الحديث، حسبما يقر منتقدو رئيس البنك المركزي الأوروبي المنتهية ولايته.
لم يتأخر دراجي، المدير التنفيذي السابق للبنك الدولي (1984-1990) والذي عمل فيما بعد لدى مصرف جولدمان ساكس (2002-2005)، كثيرا بمفاجآته، حيث سارع، حتى أثناء حفل تسلمه منصبه، للإعلان عن خفض الفائدة.
سيغادر دراجي، البالغ من العمر 72 عاما، منصبه أواخر أكتوبر/تشرين أول الجاري، كأول رئيس للبنك المركزي الأوروبي لم يتم رفع الفوائد البنكية أثناء فترة رئاسته.
ما يغضب المدخرين يسر الدائنين.
انتعاش سوق العقارات
ازدهر الطلب على العقارات لأن قروض البناء لم تعد تكلف شيئا تقريبا، إضافة إلى أن النقود الرخيصة التي يقرضها البنك المركزي تعد بمثابة مادة تشحيم للبورصات منذ سنوات.
كما أن هناك اقتصادات وطنية، مثل الاقتصاد الألماني، استفادت من هذه السياسة.
بل إن وزير المالية الألماني استفاد من الاستدانة؛ لأن مانحي القروض كانوا مستعدين لقبول تسديد فوائد سلبية.
لذلك وجد رئيس المعهد الألماني لأبحاث الاقتصاد، مارسيل فراتسشر، أن "ألمانيا لم تكن أحد الخاسرين جراء سياسة خفض الفائدة التي انتهجها البنك المركزي الأوروبي، حيث إن بلدنا من الرابحين".
تابع فراتسشر: "وليس بلدنا وحده، بل كل فرد منا استفاد، بشكل أو بآخر، من السياسة النقدية ومن اليورو".
ولكن الخلاف بشأن ما إذا كان البنك المركزي الأوروبي برئاسة دراجي قد تجاوز صلاحياته، لا يزال مثل الجمر تحت الرماد، على سبيل المثال أمام المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا، وذلك لأن لدى قضاة المحكمة تحفظات جادة بأن حراس العملة الأوروبية ربما بالغوا في شراء السندات الحكومية بالمليارات.
ورغم أن محكمة العدل الأوروبية اعتبرت عمليات شراء السندات الحكومية قانونية؛ فإن المحكمة الدستورية العليا في ألمانيا ربما قررت، في أسوأ الحالات، منع البنك المركزي الألماني، بصفته أكبر مساهم في البنك المركزي الأوروبي، من المشاركة في مزيد من شراء السندات الحكومية.
ولكن دراجي أوجد حقائق على الأرض منذ زمن بعيد، حقائق ستظل تطبع منطقة العملة الأوروبية الموحدة، اليورو، والدول الـ19 الأعضاء بها بطابعها فترة طويلة تتجاوز فترة رئاسة دراجي للبنك.
أبدى منتقدو سياسة دراجي في مجلس محافظي البنك المركزي الأوروبي إحباطهم مما يسمونه "نظام دراجي" والذي مرر فيه رئيس البنك قراراته بدلا من الاعتماد على قاعدة الإجماع، وهو ما دعا نائبة رئيس البنك المركزي الألماني سابقا، زابينه لاوتن شليجر، إلى تقديم استقالتها من المجلس التنفيذي للبنك المركزي الأوروبي، بدءا من الحادي والثلاثين من الشهر الجاري.
قالت مجلة "فيرتشافتس فوخه" (الأسبوع الاقتصادي) الألمانية، قبل بضع سنوات، عن دراجي، الذي ينحدر من روما، إنه كان يتميز بالعناد عندما كان أستاذا شابا في الاقتصاد، حيث رد على طلابه في جامعة تراينت السويسرية، عندما قالوا له لدى جمع أوراق الامتحان، إنهم أرادوا الإجابة فقط بشكل جماعي: "إذا أجاب المتحدث الجماعي بشكل صحيح، فسينجح الفصل كله، وإذا أخطأ فسيرسب الجميع".
وعندما أجاب المتحدث بشكل خاطئ رسب الجميع.
لم يفصح دراجي خلال مؤتمره الصحفي الخميس الماضي عما إذا كان يسعى مرة أخرى لمنصب عام، أو ربما يظهر على الساحة السياسية في بلاده، حيث اكتفى بالقول إنه ليس لديه خطط دقيقة بالنسبة لمستقبله، مضيفا: "الأفضل أن تسألوا زوجتي".