تحديات ما بعد الانتخابات الأوروبية
الانتخابات الأوروبية التي جرت في مايو/أيار الماضي كشفت عن جملة من التحديات التي تواجه مستقبل أوروبا الموحدة.
بات من المرجح أن تختلف سياسات الاتحاد الأوروبي ما بعد الانتخابات الأوروبية التي جرت، في 23 و26 مايو/أيار الماضي، عن السياسات التي طبقها فيما قبل هذه الانتخابات.
يبدو ذلك أمرا ضرورياً على ضوء النتائج التي أفضت إليها الانتخابات ووضعت اليمين المتطرف والشعبوي في مركز القوة الثالثة بعد الاشتراكيين والليبراليين وأنصار البناء الأوروبي من الأحزاب البيئية.
وقد كشفت هذه الانتخابات عن التحديات التي تواجه مستقبل أوروبا الموحدة، وضرورة تجاوز هذه التحديات من خلال تبني سياسات مختلفة؛ ويمكن حصر هذه التحديات في ٦ قضايا رئيسية هي:
1- انقسام جغرافي بين المدن والريف
الانقسام حول أوروبا الموحدة بين المدن والريف يأتي في مقدمة هذه التحديات، وهو الانقسام بين المناطق الحضرية الكبرى وأوروبا العميقة، أوروبا الزراعية في الأرياف والمناطق المهمشة البعيدة عن المراكز الصناعية والحضرية.2- تزاوج البعد الاقتصادي مع البعد الاجتماعي
بالإضافة إلى ذلك، فإن تطبيق النيو ليبرالية وسياساتها أسهم في تقليل قيمة العمل والرعاية الصحية والتعليمية، التي كانت تكفلها الدولة لمواطنيها، وانكمش تدخل الدولة في هذه المجالات، وتعمقت الاحتجاجات ضد هذه السياسات وساهم ذلك في تحويل هذه الطاقة الاحتجاجية إلى دعم اليمين المتطرف والمتشكك في أوروبا الموحدة.3- تعزيز القيم الأوروبية
أما التحدي الثاني فيتمثل في تعزيز القيم الأوروبية التي تتمثل في النزعة الإنسانية والأخلاقية والتنوير والمساواة، وهي مهمة القوى السياسية الأوروبية خاصة يسار الوسط والليبرالية والبيئويين وغيرهم من أنصار أوروبا الموحدة؛ ذلك لأن سياسات وخطاب اليمين المتطرف وقيمة تتمحور حول العزلة والانعزال والهوية الأوروبية، وهي القيم التي تعزز تراجع مكانة أوروبا العالمية وتعود بها إلى الوراء، وتهدف إلى انتزاع الصلاحيات من المفوضية الأوروبية لصالح السيادة الوطنية، ولن يتأتى ذلك إلا عبر بناء أوروبا أقل بيروقراطية وأكثر جاذبية وأكثر إنصاتا للأوروبيين في أعماق أوروبا النائية، وتعزيز الديمقراطية وتدعيم قنوات الاتصال بين القمة والقاعدة.4- نقد خطاب اليمين المتطرف
في هذا السياق أيضا، فإن مهمة كشف وتعرية خطاب اليمين المتطرف حول السيادة الوطنية والهوية والاستقلال عن أوروبا الموحدة، تدخل ضمن مسؤوليات القيادة الأوروبية الموحدة من خلال المؤسسات الأوروبية التمثيلية؛ لأن خطاب اليمين المتطرف يزخر بالتناقص بين ما يقال وما يقوم بممارسته فعلا.5- التحدي الجيو ستراتيجي
هو ذلك التحدي المتعلق بالجغرافيا الاستراتيجية، أي الدور الخفي تارة والمعلن تارة أخرى من قبل القوى الكبرى كالولايات المتحدة الأمريكية وروسيا الاتحادية؛ المتعلق بهاجس تفكيك الاتحاد الأوروبي والحيلولة دون أن يتحول إلى قوة سياسية وعسكرية قادرة على الحضور في الشؤون الدولية، وقدرة الاتحاد الأوروبي على التخلص من مقولة "أنه عملاق اقتصادي وقزم سياسي.6- تعزيز البناء الأوروبي وهيكلة توجهاته
الفرصة تبدو مواتية للاتحاد الأوروبي للحفاظ على تماسكه واستمراره، ولكن في صورة جديدة، تأخذ في الاعتبار المعطيات الجديدة في الموقف على الصعيد الأوروبي وتعالج مخاوف الأوروبيين من أوروبا وتستقطب أصوات المتشككين في البناء الأوروبي والذين لا يجدون في سياسات الاتحاد الأوروبي المطبقة قبل الانتخابات، ما يطمئنهم على مستقبلهم ومستوى معيشتهم ويشعرون بأن القرارات الأوروبية لا تقيم وزنا لمعاناتهم ومشكلاتهم.
ويعزز من ذلك وصول "البريكست" البريطاني إلى المأزق الراهن، فبعد أن كان هو الدواء أصبح تقريبا هو الداء العضال، بعد فشل البرلمان البريطاني في إقراره، وأن البديل المطروح الآن هو الخروج بدون اتفاق لأن الاتحاد الأوروبي يرفض فتح هذا الملف مجدداً للتفاوض، وهو الأمر الذي له عواقب كبيرة تتعلق بالتضخم وتقليل فرص العمل وهجرة الاستثمارات إلى بلاد أخرى وخفض مستوى المعيشة.
وربما يكون ذلك هو مصير ما يسمى "الفريكست" أي خروج فرنسا من الاتحاد الأوروبي أو مصير خروج بلدان أخرى من الاتحاد، ولا شك أن تعثر محاولات الخروج من الاتحاد يمثل فرصة لتطويق هذه المحاولات عبر تبني سياسات ذات توجهات اجتماعية للفئات المهمشة والمتضررة من العولمة، سياسات قادرة على بناء وصياغة التوازن بين معايير الكفاءة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية وبين المعايير الوطنية والمعايير عابرة الوطنية.