تركيا والاتحاد الأوروبي.. التقارب المستحيل
يوما بعد يوم تتضاءل فرص العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وبحسب الوقائع لا تبدو تركيا على مسافة قريبة من الالتحاق بالتكتل.
ربما لم تواجه تركيا هذا الكم من الأزمات في سياق العلاقة مع الاتحاد الأوروبي في أي مرحلة مضت مثلما تبدو في المرحلة الحالية، بسبب التباين في التعامل مع ملفات داخلية، وإقليمية عديدة إضافة إلى تراجع حاد في تركيا في شتى المجالات، وفي الصدارة منها التضييق على المجال العام وتدهور الاقتصاد وتأميم القضاء والإعلام.
ووصل مناخ العلاقة مرحلة التشاحن بين الاتحاد وأنقرة مع إصرار الأخيرة على مواصلة عمليات التنقيب عن النفط والغاز قبالة شواطئها، أو في المنطقة الاقتصادية الخالصة لجزيرة قبرص من دون تقنين حدودها البحرية وترسيم مناطقها الاقتصادية، بالتوازي مع تلويح تركيا برد عسكري ضد الدول التي تمنعها من مواصلة تلك الأنشطة "غير القانونية" داخل مناطق تعدها أنقرة ضمن حزامها البحري.
ورداً على تلك الخروقات التركية، هددت قمة الاتحاد الأوروبي الأخيرة في 20 يونيو/حزيران 2019 تركيا بفرض عقوبات مؤلمة إذا لم تُوقف عملياتها "غير الشرعية" للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص، كما دعا قادة الاتحاد المفوضية ودائرة العمل الخارجي الأوروبي لكي تقدّما من دون تأخير "خيارات للتدابير المناسبة، بما في ذلك تدابير محدّدة الأهداف". وأضافوا أنّ "الاتّحاد الأوروبي سيواصل مراقبة التطوّرات عن كثب وهو مصمّم على الردّ بشكل مناسب وبكلّ تضامن مع قبرص".
ولم يكن الموقف الأوروبي الرافض لسلوك أنقرة هو الأول من نوعه، فقد ندد المجلس الأوروبي في مارس/آذار 2018، بمواصلة تركيا أنشطتها غير القانونية في شرق المتوسط، مطالباً إياها بالتخلي الفوري، وغير المشروط عن تهديد دول حوض شرق المتوسط، والامتناع عن أي تصرفات تضر بعلاقات حسن الجوار معها.
واللافت في هذا السياق، هو أن سلوك تركيا العدائي يجعل التقارب بين تركيا والاتحاد الأوروبي بعيدة المنال بفعل مؤشرات توحي بأن التقارب، وفرص العضوية تواجه عقبات غير مسبوقة، على نحو بدا جليًا في تأكيد تقرير المفوضية الأوروبية الصادر في يونيو/حزيران 2019 على أن أنقرة أصبحت أكثر بعداً عن معايير الاتحاد الأوروبي.
انتقادات متجددة
يوما بعد يوم تتضاءل فرص العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي، وبحسب الوقائع لا تبدو تركيا على مسافة قريبة من الالتحاق بالتكتل. وفي هذا الصدد، جدد تقرير المفوضية الأوروبية الصادر في يونيو/حزيران 2019 الدعوة إلى تعليق التفاوض مع أنقرة بشأن انضمامها إلى الاتحاد الأوروبي، وأكد تقرير المفوضية أن هناك انتهاكات متكررة، ومتزايدة للمياه الإقليمية والمجال الجوي لليونان وقبرص من قبل تركيا، وحث أنقرة على تجنب أي نوع من التهديد أو العمل الموجه ضد دولة عضو في العائلة الأوروبية.
في المقابل اعتبر تقرير المفوضية الجديد أن تركيا انحرفت عن قيم ومبادئ الاتحاد الأوروبي، في حين يتعين أن تكون سيادة القانون والعدالة والحقوق الأساسية على رأس أولويات الدول المرشحة للانضمام. وبذلك استبعدت المفوضية انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
كما أعلن المجلس الأوروبي في وقت سابق وتحديدا في 26 يونيو/حزيران 2018 أن أنقرة "تبتعد أكثر عن الاتحاد الأوروبي". وأضاف أن "مفاوضات انضمام تركيا وصلت إلى طريق مسدود ولا يمكن رؤية فتح مزيد من الفصول أو إغلاق مزيد أو العمل صوب تحديث الاتحاد الجمركي للاتحاد الأوروبي وتركيا في المنظور القريب".
في ذات السياق تصاعدت المواقف الأوروبية الرافضة لتوطيد العلاقة مع تركيا، فبينما توعد مرشح عن حزب الشعب الأوروبي، مانفريد فيبر، بإنهاء محادثات انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي إذا فاز بمنصب رئيس المفوضية الأوروبية عبر منافسة يحسمها البرلمان الأوروبي، ومقرر لها الفترة المقبلة، دعا الرئيس الفرنسي ماكرون في يناير/كانون الثاني 2018 أنقرة إلى ضرورة التخلي عن الحلم الأوروبي مقابل شراكة استراتيجية، كما قالت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل في 3 سبتمبر/أيلول 2017 إن "تركيا يجب ألا تصبح أبدًا عضوًا في الاتحاد الأوروبي". وفي 26 مارس 2018 انتهت قمة "فارنا" ببلغاريا التي جمعت بين الرئيس التركي وعدد من القادة الأوروبيين، من دون إحراز تقدم في ملف العضوية الكاملة بالاتحاد.
وتفاقمت أيضا التوترات بين تركيا والاتحاد الأوروبي بفعل قرار البرلمان الأوروبي في 13 مارس/آذار 2019 تعليق مفاوضات انضمام تركيا إلى الاتحاد، ولا يبدو أن قرار البرلمان يرتبط فقط بالسياسة التي تتبناها أنقرة إزاء تقييد المجال العام؛ إذ توحي التوجهات الأوروبية بأن هناك نقاشًا عامًا داخل دوائر صنع القرار في الاتحاد حول قضايا أخرى أكثر تعقيداً، من بينها العواقب المترتبة على تدخلات تركيا في الأزمات الإقليمية المختلفة، وانعطافتها شرقاً نحو الصين وروسيا ناهيك عن تجسسها على مواطنين أتراك مقيمين على الأراضي الأوروبية عبر أدوات غير قانونية.
تأسيسا على ما سبق، فإن معوقات عديدة تدفع باتجاه توسعة المسافات بين أنقرة والاتحاد الأوروبي.
تركيا المأزومة: تجديد مساعي التقارب
وتسعى تركيا منذ وقت إلى تجديد مساعي التقارب مع الاتحاد لاعتبارات عديدة: أولها أنها تعي أن علاقة قوية مع الاتحاد تمنحها أريحية في استيعاب الضغوط التي يفرضها وصول التوتر مع القوى الدولية المعنية بأزمات المنطقة، وفي الصدارة منها الولايات المتحدة الأمريكية، حيث وصّلت التوتر إلى مستويات غير مسبوقة بين واشنطن وأنقرة، مع إصرار الأخيرة على إتمام صفقة منظومة الدفاع الصاروخية S400 التي وقعتها مع موسكو نهاية عام 2017، والتي يتم توظيفها، بحسب المسؤولين الأمريكيين، في كشف أسرار تكنولوجيا الأسلحة الأمريكية الموجودة في نطاق دول حلف الناتو، إلى جانب تحفّظها على تغلغل موسكو في منطقة الشرق الأوسط.
في المقابل، فإن تركيا تدرك أهمية العلاقة مع موسكو، لكنها تعلم في الوقت ذاته أن روسيا لا يمكن الاعتماد عليه في مواجهة ضغوط واشنطن، ولا تعوضها ميزات التقارب مع العائلة الأوروبية.
ويرتبط الاعتبار الثاني بتراجع الاقتصاد التركي، وتعتقد أنقرة أن التقارب مع أوروبا ونيل عضوية داخل هياكلها المؤسسية يمكن أن تسهم في تقليص أوجاع أزمتها الاقتصادية، لا سيما أن المساعدات الأوروبية التي ظلت تقدمها أوروبا لأنقرة بفضل اتفاق اللاجئين الذي تم توقيعه في مارس/آذار 2016، تراجعت بصورة كبيرة بعد قرار المفوضية الأوروبية، في 27 سبتمبر/أيلول 2018، تخفيضها بنسبة 40% خلال الفترة من 2018 وحتى عام 2020. وأرجعت المفوضية تقليص المساعدات إلى عدم إحراز أنقرة أي تقدم في الوفاء بمعايير كوبنهاجن المطلوبة للانضمام إلى الاتحاد.
تجدر الإشارة إلى أن الاستثمارات الأوروبية في تركيا تمثل نحو 60% من جملة الاستثمار الأجنبي في تركيا، إضافة إلى وجود ما يقرب من 22 ألف شركة أوروبية تعمل في السوق التركي، كما وصل حجم المبادلات التجارية بين الطرفين بنهاية عام 2017 ما يقرب من 154 مليار يورو.
وراء ما سبق تعول أنقرة في علاقة كاملة مع أوروبا على إمكانية الحصول على قروض إضافية من المؤسسات الأوروبية لتجاوز أزمتها الراهنة، ففي أوقات سابقة اقترضت بتسهيلات مريحة نحو 30 مليار يورو من بنك الاستثمار الأوروبي، و11 مليار يورو من البنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية.
غير أن مساعي تركيا قد لا تجد فرصة لكسر حواجز التوتر، فقد ذهب الاتحاد الأوروبي إلى نقطة قريبة من مرحلة اللاعودة مع تركيا، وبدا ذلك في تصاعد التهديدات بفرض عقوبات مؤلمة على تركيا، بفعل تدخلاتها العدائية في منطقة شرق المتوسط إضافة إلى رفض مطلق لعضويتها داخل العائلة الأوروبية بعد انحرافها عن قيم الاتحاد.
تقارب صعب
كشفت التوتر الحادث بين تركيا والاتحاد الأوروبي على خلفية إرسال أنقرة سفينة ثانية للتنقيب عن الغاز قبالة سواحل قبرص في 19 يونيو/حزيران 2019، إضافة إلى التقرير السلبي للمفوضية الأوروبية عن تركيا، والصادر حديثاً، عن أن اللحاق بالاتحاد الأوروبي، أو بناء شراكة استراتيجية غير واردة بفعل الإجراءات الاستثنائية، وتكريس السلطوية إضافة إلى الابتعاد عن قيم ومبادئ الاتحاد.
صحيح أن الاتحاد الأوروبي بحاجة لتركيا لمواجهة الارتدادات السلبية للأزمات الإقليمية، وبخاصة موجات اللجوء والهجرة غير الشرعية، حيث لتركيا أهمية خاصة في حراسة حدودها الغربية للحيلولة دون عبور اللاجئين إلى الاتحاد الأوروبي ناهيك عن إدراك الاتحاد أن العمليات الإرهابية التي تقع داخل أراضيه، تفرض ضرورة مواصلة التنسيق مع تركيا التي تمثل أحد الممرات الآمنة لعبور الإرهابيين إلى أوروبا.
لكن رغم ما سبق، فإن فرص تراجع العلاقة، واستحالة نيل عضوية كاملة داخل الاتحاد تبقى الأوفر في ضوء اعتبارات ومعوقات قد يصعب التحايل أو القفز عليها، أولها، مناوشات تركيا المستمرة مع دول الاتحاد الأوروبي إضافة إلى مواصلة التحرش "الجيواستراتيجي"، بدول الاتحاد في حوض شرق المتوسط، حيث تصر تركيا على إثارة القلق في منطقة شرق المتوسط، الذي قدَّرت دراسات هيئة المسح الجيولوجي الأمريكية كمية احتياطيات الغاز الطبيعي الكامنة في أعماقه بـ340 تريليون قدم مكعب، ومعها بلايين البراميل من النفط الخام.
ويرتبط الاعتبار الثاني بقلق أوروبي من نشر تركيا شبكات التجسس على المعارضة التركية في أوروبا عبر الاتحاد الإسلامي التركي للشؤون الدينية "ديتيب"، المنوط بها الإشراف على المساجد التركية في أوروبا، وتستخدم تركيا "ديتيب" للتأثير على المسلمين، وبث خطاب سياسي مُتشدّد، وهو ما أكدته أجهزة الاستخبارات الألمانية، والتي تسعى لوضع الاتحاد الإسلامي التركي "ديتيب" تحت مراقبتها، كما تخشى أوروبا من حجم ارتباطات تركية بالجماعات الراديكالية، والانخراط السلبي في أزمات إقليم الشرق الأوسط، وهو الأمر الذي يقف حاجزاً أمام انضمام بلاده لهذا التجمع الإقليمي المهم.
ويعود الاعتبار الثالث إلى النزعة السلطوية للرئيس أردوغان، وهو ما تجلى في معارضة الاتحاد تحول تركيا إلى جهة النظام الرئاسي بموجب التعديلات الدستورية التي شهدتها البلاد في أبريل/نيسان 2017، وكذلك إلغاء نتيجة اقتراع اسطنبول في الجولة في 31 مارس/آذار 2019 من دون سند قانوني بعد فوز مرشح المعارضة أمام أوغلو، ويخشى الأوروبيون من أن يفضي إمساك أردوغان بكامل مفاصل الدولة وأجهزتها إلى إحداث هزة في أسس النظام السياسي التركي تفضي بدورها إلى تقويض التوازنات بين مكوناته ومؤسساته، في أعقاب الخلل الذي أحدثه أردوغان في العلاقة بين مكونات المنظومة الأمنية التركية بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة التي وقعت منتصف يوليو/تموز 2016.
خلف ما سبق يمثل العامل الديموغرافي عقبة أمام انضمام تركيا البالغ عدد سكانها ما يقرب من 80 مليون نسمة، والمتوقع أن يصل إلى 100 مليون خلال السنوات القليلة المقبلة. ولعل معدل النمو السكاني في تركيا سوف يزيد من وزن تركيا في عملية التصويت حال دخولها البيت الأوروبي، وهو ما قد يمثل خصما من وزن وتمثيل ألمانيا التي تحتل المرتبة الأولى سكانيا بين دول الاتحاد، ولذلك تفضل ألمانيا كالنمسا منح تركيا صفة شريك مميز في الاتحاد بدلا من منحها العضوية الكاملة.
إجمالا يمكن القول إن العلاقة بين تركيا والاتحاد الأوروبي باتت في مفترق طرق، ورغم تقاطعات المصالح السياسية والاقتصادية فإن فرص التوتر بين أنقرة والعائلة الأوروبية غير مرشحة للانحسار، في انتهاكات تركيا لحقوق قبرص، واليونان في شرق المتوسط وبحر إيجة ناهيك عن ابتعاد تركيا بخطوات سريعة عن معايير الاتحاد.
الآراء والمعلومات الواردة في التحليلات تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة.