لم تبدأ الأعراض الفينوسية في الظهور على السياسة الخارجية الأمريكية مع قدوم إدارة الرئيس الجمهوري ترامب
في الخليج وسوريا، ترددت الولايات المتحدة مؤخرا عدة مرات في استخدام القوة، بطريقة تخالف ما هو معتاد عن السياسة الخارجية الأمريكية، وتخالف أيضا اللهجة والبلاغة القوية التي يتحدث بها المسؤولون الأمريكيون عن سياسة بلادهم الخارجية؛ فهل تغيرت أمريكا، وأصبحنا إزاء أمريكا مختلفة عن تلك التي عرفناها من قبل؟
كانت الولايات المتحدة تستعد لشن الحرب على العراق، فيما كان الأوروبيون يقاومون الاندفاع الأمريكي للحرب بكل السبل. كان الخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا الغربية هو أكبر انقسام يضرب المعسكر الغربي منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية، وكانت هذه هي المرة الأولى التي تقف فيها أوروبا الغربية في جانب، فيما الولايات المتحدة تقف في الجانب الآخر، مختلفين حول قضية تتعلق بالحرب والسلام.
لكن الذي يبدو مؤكدا هو أن المزاج الأمريكي، في اليسار واليمين على حد سواء، لم يعد لديه نفس الثقة التي كانت لدى الأمريكيين قبل ذلك في قدرة بلدهم على توجيه الأمور للوجهة التي تريدها، وفي فاعلية القوى المسلحة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية
تزعمت فرنسا وألمانيا حملة المعارضة الأوروبية للسياسة الأمريكية، فالبلدان هما القطبان الأكبر في الاتحاد الأوروبي والسياسة الأوروبية. كانت ألمانيا تترأس مجلس الأمن في شهر فبراير 2003، حيث جرى الصدام الدبلوماسي الأكبر بين أوروبا والولايات المتحدة. في الرابع عشر من فبراير تحدث وزير خارجية أمريكا كولين باول داعيا المجلس لإصدار قرار يسمح باستخدام القوة ضد العراق، فرد عليه وزير خارجية فرنسا دومينيك دو فيلبان بخطاب قوي فند فيه الحجج الأمريكية. في السادس عشر من فبراير اجتاحت المدن الأوروبية أكبر موجة من أكبر المظاهرات التي شهدتها أوروبا، رفضا للسياسة الأمريكية. فحتى في البلاد التي اختارت حكوماتها الوقوف بجانب الولايات المتحدة، وخاصة بريطانيا وإسبانيا، عارضت أغلبية الرأي العام في البلدين سياسة حكومتيهما المؤيدة للولايات المتحدة.
اتهم الإعلاميون الشعبويون في الولايات المتحدة فرنسا بالمسؤولية عن تحريض الرأي العام الأوروبي لرفض الوقوف إلى جانب واشنطن، وتخويف الحكومات الأوروبية من التعاون معها. جعل الشعبويون الأمريكيون من فرنسا رمزا لنكران الجميل، فبعد أن ضحى الأمريكيون لإنقاذ فرنسا من الجبروت الألماني مرتين خلال القرن العشرين، يرد الفرنسيون بتزعم حملة معاداة الولايات المتحدة في أوروبا.
ظهرت في الولايات المتحدة حملات لمقاطعة كل ما هو فرنسي، خاصة النبيذ والجبن. حتى البطاطس المقلية التي اعتاد الأمريكيون على تسميتها المقلية الفرنسية French fries، حتى هذه طالب المحرضون الشعبويون بتغيير اسمها، وبالفعل أصبح اسمها منذ ذلك الوقت "مقلية" فقط، وهو الاسم الذي تجده الآن مستخدما في مطاعم ماكدونالدز الأمريكية الشهيرة حول العالم.
لكن هذا المنطق الشعبوي لم يرق لروبرت كاجان، أحد أهم منظري السياسة الخارجية الأمريكية المعاصرين، فراح يبحث عن سبب أعمق للخلاف بين الولايات المتحدة وأوروبا، فالتحالف الغربي بدا وكأنه يتداعى، وكان الأمر يحتاج إلى تفسير. نشر كاجان في صيف 2002 مقالا بعنوان القوة والضعفPower and Weakness، محاولا فيه شرح أسباب الخلاف الأمريكي-الأوروبي.
قال كاجان في مقاله إن الأمريكيين يأتون من كوكب المريخ بينما يأتي الأوروبيون من كوكب الزهرة، Americans are from Mars, and Europeans are from Venus، ومغزى هذه الاستعارة واضح إلى حد كبير. فوفقا للميثولوجيا اليونانية فإن كوكب الزهرة يحمل اسم فينوس آلهة الحب والجمال، فيما يحمل كوكب المريخ اسم مارس إله الحرب، والمغزى المقصود هو أن في الأوروبيين رقة وعاطفية آلهة الحب والجمال، فيما يتسم الأمريكيون بالقوة المميزة لإله الحرب.
لفت مقال روبرت كاجان الأنظار، وتم استخدام استعارته عن فينوس ومارس في عشرات المقالات والأحاديث في الفترة التالية التي شهدت تصعيدا في الخلاف الأمريكي الأوروبي. اقتنص كاجان الفرصة، وطور مقاله الشهير فحوله إلى كتاب يحمل عنوان "أوروبا والولايات المتحدة في النظام الدولي الجديد". في ذلك الوقت كان الدبلوماسي الإسباني الشهير خافير سولانا يشغل منصب مفوض السياسة الخارجية والأمنية للاتحاد الأوروبي، ورأي في كتاب كاجان إسهاما مهما في شرح الخلافات الأمريكية الأوروبية، فأمر بشراء عدد كبير من نسخ الكتاب لتوزيعها على سفراء الاتحاد الأوروبي في العالم.
شرح كاجان وجهة نظره فقال إن الأوروبيين والأمريكيين يقفون على طرفي نقيض عندما يتعلق الأمر بالقوة: وظيفتها، وأخلاقيات استخدامها، والرغبة في امتلاكها. في رأي كاجان فإن الأمريكيين لديهم استعداد أقل للتعايش مع التهديدات والتسامح معها، على عكس الأوروبيين الذين يفضلون التعايش مع التهديدات على الدخول في مواجهة معها. رأى كاجان أن الأمريكيين لديهم القوة ولديهم أيضا الاستعداد لاستخدامها، فيما الأوروبيون يخشون من استخدام القوة بسبب تاريخهم الدامي في القرن العشرين، وبسبب اعتمادهم على الولايات المتحدة للدفاع عنهم منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.
ألا ينطبق تشخيص كاجان اليوم على الولايات المتحدة؟ ألا تتردد واشنطن في كل مرة يكون عليها فيها أن تختار بين استخدام القوة، أو استخدام أساليب أخرى لتحقيق أهدافها، لينتهي بها الأمر في النهاية وقد تجنبت استخدام القوة، كما لو كانت الولايات المتحدة لم يعد لديها النية والاستعداد لاستخدام القوة، رغم امتلاكها لها. لا يتعلق طرح هذه الأسئلة بتفضيل الحرب على الوسائل السلمية، فالمقصود هو رصد ما يبدو أنه تحول مهم في السياسة الأمريكية، وهو تحول علينا أن نلاحظه ونفسره، حتى نبني سياساتنا على إدراك كامل لحقائق الأمور.
لو كان تحليل روبرت كاجان سليما، ولو كانت السياسة الخارجية تعكس خصائص عميقة في القدرات والخبرة التاريخية والتكوين النفسي للدول، فإن تصرف الولايات المتحدة مؤخرا، كما لو كانت هي أيضا من فينوس، يحتاج إلى تفسير أعمق من مجرد النظر في التفضيلات الشخصية والتقلبات المزاجية للرئيس ترامب؛ خاصة أن روبرت كاجان صاحب هذا التحليل، يصر على حياده الحزبي، محاولا التأكيد على أن تحليلاته ذات صفة أمريكية أكثر منها تحليلات منحازة إلى هذا الحزب أو ذاك، وهو ما يؤكده التاريخ السياسي لروبرت كاجان.
عمل كاجان في إدارات أمريكية مختلفة، جمهورية وديمقراطية، بدءا من إدارة الرئيس رونالد ريجان. ورغم أن كاجان كان قريبا من جماعة المحافظين الجدد لفترة غير قصيرة، إلا أنه يتمسك بتصنيف نفسه كليبرالي تدخلي، وليس كواحد من المحافظين الجدد؛ أما في الانتخابات الرئاسية الأخيرة فقد انحاز روبرت كاجان للمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون ضد مرشح الجمهوريين دونالد ترامب.
لم تبدأ الأعراض الفينوسية في الظهور على السياسة الخارجية الأمريكية مع قدوم إدارة الرئيس الجمهوري ترامب، فالسنوات الثماني السابقة على ذلك، في ظل إدارة الرئيس الديمقراطي أوباما، شهدت أكثر من مناسبة تصرفت فيها الولايات المتحدة بطريقة توحي بتفضيل تجنب المواجهة، وإحالة المخاطر إلى المستقبل بدلا من التعامل المباشر معها، حدث هذا مرة في سوريا، والمرة الثانية في إيران. فقبل أن تستكمل عامها الأول كانت الانتفاضة السورية تحولت إلى حرب أهلية، وكانت قوات النظام لا تتردد في استخدام كل الأساليب لهزيمة الثائرين. لاحتواء العنف المتصاعد أعلنت الولايات المتحدة على لسان رئيسها أن استخدام الأسلحة الكيماوية في قمع الثوار خط أحمر.
في عام 2013 ثبت بما لا يدع مجالا للشك أن السلاح الكيماوي قد تم استخدامه من جانب النظام ضد خصومه، الأمر الذي وضع الولايات المتحدة في مواجهة خطها الأحمر، وحبس العالم أنفاسه مترقبا الطريقة التي ستنفذ بها واشنطن تهديدها، وتداعيات تدخل أمريكا العسكري في الحرب السورية، وما إذا كان التدخل العسكري الأمريكي سيسفر عن حملة عسكرية ممتدة لإنهاء الصراع لغير صالح النظام. غير أن الرئيس أوباما لم يفعل أي شيء من هذا، واستجاب، بدلا من ذلك، للاقتراح الروسي بالاكتفاء بنزع سلاح سوريا الكيماوي تحت إشراف دولي. بعد ذلك بسنوات ظهرت أدلة جديدة على استخدام الكيماوي في الحرب السورية، ليتأكد الجميع أن الرئيس أوباما لم يكن جادا عندما تحدث عن الخط الأحمر، وعندما تحدث عن تخلي النظام السوري عن سلاحه الكيماوي.
الاتفاق النووي الإيراني هو المناسبة الثانية التي فضلت فيها إدارة أوباما تأجيل التعامل مع التهديد، فاتفاق 2015 النووي مع إيران لم يفعل أكثر من تجميد برنامج إيران النووي العسكري لفترة 10 – 15 عاما، في مقابل رفع العقوبات عن إيران، ودون أي تقييد لأسلحة إيران الصاروخية، ولا لقيام إيران بالتدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار؛ بما يعني مواصلة إيران تهديد الاستقرار والأمن الإقليمي في الحاضر، فيما تعود بعد عقد ونصف العقد لمواصلة ابتزاز جيرانها نوويا.
جاء الرئيس ترامب تسبقه لغة خطابية فيها الكثير من التهديد والوعيد، لكن هذه البلاغة الحماسية استهدفت التغطية على وعود ترامب الانتخابية بإعادة الجنود إلى الديار، والحد من تورط الولايات المتحدة في صراعات عسكرية، وبأن الولايات المتحدة ليست مسؤولة عن حماية الآخرين. وصل الرئيس ترامب بميزانيات التسلح الأمريكية إلى مستويات غير مسبوقة، لكنه في نفس الوقت قلل التزامات أمريكا العسكرية إلى أدنى مستوى؛ فيما كانت بلاغته الحماسية تخفي حقيقة المحتوى الفينوسي لسياساته. تردد الرئيس ترامب في الرد على الاعتداءات الإيرانية على الملاحة والمنشآت النفطية في الخليج، وقيامه مؤخرا بسحب القوات الأمريكية من مواقعها في شمال سوريا، مفسحا الطريق للجيش التركي لاجتياح المنطقة، كل هذه التطورات تشهد على تغير مفهوم ودور القوة في السياسية الخارجية الأمريكية.
قد لا تحظى خطوات الرئيس ترامب الخارجية بإجماع الأمريكيين، ولكن لا شيء في الولايات المتحدة، خاصة في ظل هذه الإدارة، يحظى بالإجماع. ومع هذا فإن إحجام الرئيس ترامب عن استخدام القوة ليس من بين الأشياء التي يختلف عليها الأمريكيون حقا، وإن اختلفوا على طريقة أدائه المثيرة للجدل. لكن الذي يبدو مؤكدا هو أن المزاج الأمريكي، في اليسار واليمين على حد سواء، لم يعد لديه نفس الثقة التي كانت لدى الأمريكيين قبل ذلك بقدرة بلدهم على توجيه الأمور للوجهة التي تريدها، وفي فاعلية القوى المسلحة في تحقيق أهداف السياسة الخارجية، فمرحبا بالولايات المتحدة على فينوس.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة