غبت عن مصر بضعة أسابيع، خلال هذا الصيف، كنت أتابع أثناءها أهم الأخبار من قراءة الصحف والمكالمات التليفونية
غبت عن مصر بضعة أسابيع، خلال هذا الصيف، كنت أتابع أثناءها أهم الأخبار من قراءة الصحف والمكالمات التليفونية، وتردد خلال هذه الفترة الكلام عن ارتفاع الأسعار بحيث بدا لى أن هناك شكوى عامة لابد أن يكون لها أساس قوي، ثم نشرت الصحف أن هذا الارتفاع فى الشهور الأخيرة قد رفع معدل التضخم السنوى إلى ما يقرب من 15%، وهو رقم مرتفع ونادر الحدوث فى مصر، لابد أن يشعر به من يسمون بمحدودى الدخل.
عندما عدت إلى مصر سمعت ترجمة ذلك الى قصص حقيقية وتجارب حية، فقالت لى سيدة من محدودى الدخل أنها كلما ركبت الميكروباص لا يكف الركاب عن الكلام عن الأسعار، فما إن يبدأ أحدهم فى الحديث عن أى موضوع حتى يتحول الحديث بسرعة الى كلام عن الأسعار، ولم يكن الأمر كذلك من قبل، وقالت سيدة أخرى لزوجتي، جاءت لتطلب منها سلفة وهى فى منتهى الخجل، إن ابنتها التى على وشك أن تبدأ السنة الأخيرة قبل امتحان الثانوية العامة، تحتاج خلال هذه السنة الى عشرة آلاف جنيه قيمة الدروس الخصوصية الضرورية لاجتياز الامتحان، وأنهم لا يملكون هذا المبلغ، ويحتاجون الى فترة لتدبيره، ومن ثم فهم سوف يؤجلون دخول البنت هذا الامتحان لمدة سنة حتى يتوافر لهم المبلغ المطلوب، وقالت وهى على وشك البكاء، إنها ـ أى الأم ـ تجد الموت أرحم مما هى فيه.
قال لى رجل من نفس الطبقة الاجتماعية، وفى أوائل الأربعينيات من عمره، بعد دقيقة أو دقيقتين من بداية لقائنا، إن تغيير أنبوبة البوتاجاز (اذا وجدها) أصبح بخمسين جنيها بعد أن كان «عشرين» أو أقل، وإن المنطقة الشعبية التى يسكن بها تصنف على أنها مليئة بالآثار، فلا يسمح فيها بالحفر لتركيب أنابيب توصيل الغاز إلى المنازل.
لفت نظرى ارتفاع نسبة السيدات اللاتى يتحملن العبء الأكبر من التفكير والتدبير فى طريقة الخروج من المأزق، إما لأن الأزواج قد اختفوا بالطلاق أو بقضية مخدرات (مع ملاحظة أن كثيرا ما تكون للطلاق أو الإدمان علاقة بزيادة أعباء المعيشة)، أو لأن الرجل قد لا توافيه الشجاعة الكافية التى تتوافر لامرأته بطلب المساعدة من غرباء.
شعرت من تكرار هذه الأمثلة فى فترة قصيرة، أن مصر تمر الآن بحالة مختلفة عن حالها خلال أى تضخم سابق، رجعت إلى أرقام التضخم خلال الخمسين عاما الماضية، فوجدت أن الفترة الوحيدة التى فاق فيها معدل التضخم معدله فى الشهور الأخيرة (15%) هى فترة العشر سنوات، بين أواخر السبعينيات وأواخر الثمانينيات (77 ـ 1986)، والتى وصل معدل التضخم فى آخر سنواتها (1986) الى مستوى يندر أن تعرفه مصر (35%)، ولكنى أتذكر هذه الفترة جيدا، ولا أتذكر أن معاناة المصريين من ارتفاع نفقات المعيشة كانت تشبه معاناتهم الآن، ثم سرعان ما تبينت السبب.
إن الذين يعانون من التضخم، أو من ارتفاع نفقات المعيشة، هم من لا يرتفع دخلهم النقدى بنفس المعدل، أو من لا يحصلون على أى دخل على الإطلاق، أى المتبطلين، من المؤكد أن شريحة كبيرة من موظفى الحكومة فى مصر وأصحاب المعاشات، ممن لا تزيد دخولهم عادة بنفس معدل التضخم، قد عانوا خلال الفترة المذكورة (77 ـ 1986) بدرجة قريبة من معاناتهم الآن، ولكن لدى من الأسباب ما يدفعنى إلى الاعتقاد أن غالبية الشعب المصرى لم تبلغ معاناتها من التضخم حينئذ مثلما بلغته فى الأشهر الأخيرة.
هناك أولا ما اتسمت به تلك الفترة (77 ـ 1986)، من ارتفاع كبير فى معدل نمو الدخل القومى الذى تجاوز 7% (أى ضعف معدله الآن)، لأسباب معروفة: الهجرة إلى الخليج، إعادة فتح قناة السويس، استعادة بترول سيناء، ازدهار السياحة، فضلا عن تدفق المعونات والقروض الأجنبية، وكان الخطأ الأساسى فى السياسة الاقتصادية خلال تلك الفترة إهمال الاستثمار فى الصناعة والزراعة، مما أحدث تصدعا كبيرا فى الأجل الطويل، ولكن عوامل الانتعاش فى الأجل القصير، التى ذكرتها حالا، خففت بشدة من معاناة الناس من التضخم، وبدت مشكلة مصر الأساسية فى أوائل الثمانينيات الزيادة الكبيرة فى أعباء خدمة الديون الخارجية، التى تورطت فيها حكومات السادات بلا مبرر، ولكن المشكلة لم تكن «الركود الاقتصادي»، وفى ظل الركود تزداد المعاناة من التضخم، إذا اقترن الإثنان كما هى الحال الآن.
الفارق المهم الآخر بين ما نحن فيه الآن وأحوالنا منذ أربعين عاما، يتعلق بانتشار البطالة، فلقد تجاوز معدل البطالة فى مصر فى الأشهر الأخيرة، طبقا للأرقام الرسمية، 12%، من القوة العاملة، ولكن هذا الرقم يعطى صورة أفضل من الحقيقة، إذ إنه لا يتضمن حجم البطالة الموسمية، ولا الأعداد الكبيرة من المتبطلين بطالة مقنعة ممن يشتغلون بأعمال أقل بكثير من قدراتهم وتولد دخولا أقل بكثير مما يحتاجونه، لم يكن الأمر كذلك فى الفترة (77 ـ 1986)، بل تكاد تكون صورة تلك الفترة هى العكس بالضبط، لقد فتحت الهجرة إلى الخليج أبواب العمل لثلاثة ملايين من المصريين من مختلف الشرائح الاجتماعية، فسمحت لهم باستيراد ما يطمحون إليه من سلع جديدة كالثلاجات وأجهزة التليفزيون والفيديو والسيارات والشقق، وخلفوا وراءهم ندرة فى هذه المهارات كلها سمحت للباقين فى مصر من الحصول على أجور أعلى واقتناء هذه السلع بدورهم، فى أوائل الثمانينيات نشر كتاب للاقتصادى السويدى بنت هانسن والاقتصادى المصرى سمير رضوان، عن العمالة فى مصر، ذكرا فيه أن مشكلة العمالة فى مصر لم تعد وجود فائض من الباحثين عن عمل، بل وجود ندرة تطالب بأجور أعلي.
منذ منتصف الثمانينيات بدأت مشكلة البطالة تظهر من جديد فى مصر، وأخذت فى ازدياد حتى اليوم، وصاحب ذلك نمو فى ظاهرة المجتمع الاستهلاكي، الذى زاد من حدة الشعور بالحرمان لدى من لم يستطع الحصول على دخل كاف، بل وظهرت مشكلات جديدة جعلت أرقام التضخم ونفقات المعيشة تعجز عن التعبير عن حقيقة هذا الشعور بالحرمان، من ذلك مثلا ما حدث لظاهرة الدروس الخصوصية نتيجة التدهور المستمر فى التعليم، فأصبحت تكاليفها تمثل بندا أساسيا من بنود الإنفاق لدى الشرائح الفقيرة والمتوسطة، بينما ظلت تظهر فى حساب نفقات المعيشة وكأن الانفاق على التعليم كله لا يمثل إلا 4.6% من مجموع الأوزان التى تقدر بها الأهمية النسبية لكل بند من بنود الإنفاق.
قد نستمر فى التعبير عن الغلاء اليوم، كما نعبر عنه دائما، ولكن الحقيقة أن غلاء هذه الأيام من نوع مختلف.
نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة