يوجه أصحاب الفكر المتطرف سهامهم دائمًا نحو الأمة في جرأة وسطحية ومجازفة، متخذين من اختزال بعض الأدلة الشرعيَّة وانتقاء مسائل محددة
يوجه أصحاب الفكر المتطرف سهامهم دائمًا نحو الأمة في جرأة وسطحية ومجازفة، متخذين من اختزال بعض الأدلة الشرعيَّة وانتقاء مسائل محددة
من التراث ستارًا لدعم اتجاهاتهم الفكرية العقيمة وجلب مزيد من الناس - خاصة الشباب ـ إلى دائرتهم بدعوى الحفاظ على الهوية الإسلاميَّة والدعوة إلى تطبيق الأحكام الشرعيَّة.
ولقد أمسكنا عن بيان فقرة وردت في حديث «بعثت بالسيف»، الذي تناولناه في المقال السابق، وهي قوله صلى الله عليه وسلم: «من تشبه بقوم فهو منهم» (مسند الإمام أحمد/ 5114)، وهي قضية خطيرة يتخذها هؤلاء متكئًا يستندون عليه في إطلاق مقولة الكفر على عموم الأمة ورمي أجيالها المعاصرة بسيل من التهم المعلبة تحت ما يسمونه زعمًا ـ ب ـ «الجاهلية المعاصرة»، و«اتِّباع المسلمين سنن الغرب وغير المسلمين»،و«الغربة والبعد عن الدين».
ولا ريب أن هذه الدعاوى عارية عن الدليل والفهم الصحيح ومجافية للواقع وخارجة عن عمل المسلمين سلفًا وخلفًا، لأن مجرد وقوع المشابهة في أمر مباح في نفسه - كالعادات التي لا تتعارض مع الشرع الشريف - لا تستلزم وقوع التشبه المنهي عنه شرعًا، ألا نأكل ونشرب ونلبس كما يفعلون، وألم يعتمد جمهور العلماء مبدأ »شرع من قبلنا شرع لنا« دليلًا شرعيًّا لاستنباط الأحكام الشرعيَّة بعد مراعاة جملة من القواعد والضوابط المقررة في ذلك؟!
لقد صحَّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحب ويعجب بموافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء، وأنه صلى في جبة شامية، ولبس النعال التي لها شعر، وهي من لباس الرهبان، وهمَّ بنهي الزوج عن معاشرة زوجته حال كونها مرضعًا، لكنه لم يفعل؛ لأن الروم وفارس يصنعون ذلك ولا يضر أولادهم.
كما شارك النبي صلى الله عليه وسلم في حلف الفضول في دار عبد الله بن جدعان عضوًا مع المشركين الذين اجتمعوا لنصرة المظلوم ورد الحقوق لأصحابها، وحاكى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه الأعاجم في عمل الدواوين من أجل بناء الدولة وتقوية أركانها.
إن الإسلام لا يسعى لأن يكون أتباعه متميزين لمجرد التميز، إنما يأمرهم بالتميز بالأخلاق الحسنة والصفات الجميلة والشمائل الكريمة، ومراعاة كرامة الإنسان، والوفاء بالمواثيق والعهود، وحب الخلق ورحمتهم، واحترام عادات الناس وأعرافهم وتقاليدهم المباحة، ورغم ذلك لا يرضى من المسلمين التبعية الانهزامية التي يتأتى منها ذوبانهم في غيرهم، وكما هي مذمومة شرعًا مذمومة أيضًا بالفطرة لدى كل إنسان شريف النفس سليم الطبع.
لقد وضع الشرع الشريف ضوابط حاكمة لهذه القضية حتى لا يشوبها إفراط ولا يتخللها تفريط؛ وهي تتجلى في أن التشبه المذموم شرعًا لا يكون إلا بعد توفر أحد شرطين: الأول: أن يكون محل التشبه حرامًا في نفسه، كارتكاب المحرمات والمنهيات وترك المأمورات والواجبات. والثاني: أن يقصد المسلم التشبه بغير المسلم لمجرد التشبه والتقليد دون قصد لمصلحة معتبرة، كما أفاد الإمام المَوَّاق المالكي في(سنن المهتدين في مقامات الدين ص249 )، والعلامة ابن نجيم الحنفي في (شرح كنز الدقائق 2/ 11).
وعليه.. فإن هذه المعاني الفاسدة والأغراض الخبيثة التي يستميت أصحاب الفكر المتطرف في بثها لدى المسلمين لا علاقة له بالإسلام ولا بالنبي صلى الله عليه وسلم ولا بحضارة الإسلام، بل إن ما نراه من مظاهر يشترك في فعلها المسلمون وغيرهم من الأمور المباحة وشئون العادات والأعراف هي أمور مشروعة لا ممنوعة. ولا يجوز بحال أن تتخذ تكأة لتكفير المسلمين، أو أن تكون أصلا لترسيخ الجمود لديهم، وانفصالهم عن الواقع، ومعاداة وبغض شركاء المجتمع وأخوة الإنسانية؛ لأن المسلمين أبناء وقتهم، وهم مأمورون بأخذ النافع من العلم والطيب من العمل وبذل البِرّ والإحسان إلى الناس كافة، وهي مقاصد جليلة ومعان سامية لا يختلف عليها العقلاء.
* نقلاً عن "الأهرام"
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة