العبرة تكمن في اختلاف الديناميكية والسياق، وليس في الإيحاءات غير المضبوطة لهذا أو ذاك أو تأويله المغرض لقرار المغرب العمل من داخل الاتحاد الأفريقي، بعد تحركه خارج الإطار القاري لأفريقيا لأكثر من ثلاثة عقود.
العبرة تكمن في اختلاف الديناميكية والسياق، وليس في الإيحاءات غير المضبوطة لهذا أو ذاك أو تأويله المغرض لقرار المغرب العمل من داخل الاتحاد الأفريقي، بعد تحركه خارج الإطار القاري لأفريقيا لأكثر من ثلاثة عقود.
سقطت آخر مناورات الخصوم داخل الاتحاد الأفريقي، واستعاد المغرب موقعه داخل المؤسسة الأفريقية القارية، مما فتح المجال أمام العاهل المغربي الملك محمد السادس للتوجه بخطاب تاريخي مباشر إلى القمة الثامنة والعشرين للاتحاد بالعاصمة الإثيوبية الثلاثاء الماضي.
وهو خطاب سياسي استراتيجي من طراز يعد بمثابة الدعوة والمبادرة إلى إعادة قطار العمل الأفريقي المشترك إلى سكة التعاون والتفاعل، وتعزيز الروابط في مختلف المجالات، ونبذ أساليب الفرقة والقرصنة السياسية، والقطع مع منطق البورصة في التعامل مع الدول الأفريقية وقضايا القارة المصيرية.
إنه بهذا المعنى خطاب الدعوة إلى ممارسة الاتحاد الأفريقي لحقه في تقرير مصيره خارج حسابات القوى الهيمنية التي حاولت، دائما، رهن ممارساته بخدمة أجنداتها الإقليمية والدولية بما في ذلك أجندات تأجيج النزاعات داخل أفريقيا، بدل العمل على توحيد الصفوف والمساهمة في اندمال الجراح.
ولقد خيب الخطاب الملكي، على هذا المستوى، ظن من اعتقدوا أنه سيكون خطاب حرب وربما شماتة، أيضا، في الخصوم والأعداء، عندما كان خطاب اليد الممدودة إلى أفريقيا للعمل معا بما يخدم مصلحة أفريقيا. بل إن نبرته الإيجابية إلى حدودها القصوى في التطلع إلى المستقبل قد كذّبت هي كذلك، توقعات وتكهنات من راهنوا على أنه سيكون خطاب إثارة وجدل عقيم حول قضايا يمكنها حرف الاهتمام عن هذه العودة التاريخية إلى العمل الأفريقي المؤسساتي الرسمي باعتباره الحدث المؤسس لمستقبل أفريقي أكثر تعاونا ومسؤولية في التعاطي مع القضايا المصيرية للقارة في مجملها وبمختلف مكوناتها ومع قادة تخلصوا من كل عقد الماضي على مختلف تجلياتها.
إن تأكيد الخطاب على إدراك المغرب سلبية مواقف عدد من الدول من استعادة دوره الطبيعي في إطار الاتحاد الأفريقي، هو عنوان مقاربة ترمي إلى استيعاب الجميع داخل الاتحاد، وكان هذا ممكنا لولا بعض السلبية والتوجس الذي وسم عددا من الدول التي يبدو أنها لا ترغب في مبارحة مواقع الفرقة والنزاع.
لكن ما هو أساسي أنه خطاب الأجوبة على الانتظارات الاستراتيجية على المستوى الأفريقي باعتبارها الإطار العام للتعاطي مع الانتظارات الحقيقية. من هنا يكون نبذ كل النقاشات العقيمة وكل أشكال المماحكات اللفظية الفارغة حول استنتاجات ذاتية هنا وهناك، هو الحكمة التي ينبغي أن تؤطر كل عمل أفريقي طموح وبناء. وهنا تكمن القيمة المُضافة التي يشكلها انخراط المغرب في العمل المؤسساتي للقارة على أنقاض خطاب الأحلاف والأحلاف المضادة التي وسمت ممارسة عدد من الدول خلال حقبة انتهت، ولم يعد لمجمل مستلزماتها مبرر للوجود.
ولعل هذا ما دل عليه تركيز خطاب العاهل المغربي على أن مفاهيم مثل العالم الثالث وما يحمله من شحنة سياسية وأيديولوجية قد أصبح متجاوزا وأضحى وراءنا على مختلف المستويات، وأن شعار المعركة ينبغي أن يكون شعار أفريقيا بامتياز: شعار البناء وتبادل الخبرات بين مختلف البلدان على قاعدة المصالح المشتركة وعلى أنقاض سياسات توجيه الأنظار إلى خارج أفريقيا واستراتيجيات هذا الخارج المحلية والإقليمية، التنموية والديمقراطية على حد سواء. ذلك أن أفريقيا ينبغي أن تكون الهدف والمرجعية، وقاعدة الانطلاق ومحور العمل الدؤوب للتغلب على مختلف الصعوبات ورفع التحديات اعتمادا على طاقاتها وعبقرية شعوبها.
وبطبيعة الحال لم يكن ممكنا لهذا الخطاب التاريخي تجاهل الإجابة الضرورية على سؤال تردد على أكثر من لسان داخل المغرب وخارجه، من موقع تأييد مسعى المغرب، كما من موقع التشكيك فيه، يمكن تركيزه بهذه الصيغة: هل أن تحرك المغرب من داخل الاتحاد الأفريقي هو اعتراف ضمني بدولة البوليساريو الوهمية، وقد يتحول في المستقبل إلى اعتراف صريح، كما يحاول البعض أن يذيع في الناس متذرعا بأن المغرب الذي برر في السابق خروجه من منظمة الوحدة الأفريقية هو الذي يقبل اليوم العمل داخل الاتحاد الأفريقي الذي لا يعترف بالدولة الوهمية فحسب، وإنما هي من بين مؤسسيه، الأمر الذي يعني أن المغرب دشن مرحلة العد العكسي لتراجعه عن موقفه، الذي كان يبدو ثابتا حول قضية وحدته الترابية وسيادته على الصحراء؟
إن هذا ما تحاول الإيحاء به الاستراتيجية الإعلامية للدولة الجزائرية وجبهة البوليساريو الانفصالية التي زعمت أن دخول المغرب إلى الاتحاد هو انتصار لها ولداعميها في القارة الأفريقية. غير أنه قول مردود انطلاقا من كون الجزائر وداعمي أطروحة الانفصال في الجنوب المغربي جندا، إلى الأمس القريب، وعشية انعقاد قمة الاتحاد الأفريقي الثامنة والعشرين كل أدواتهما الدبلوماسية والإعلامية، بل ومارسا ضغطا قويا على عدد من الدول الأفريقية لثنيها عن تأييد عودة المغرب إلى المؤسسة القارية الأفريقية تحت مزاعم أن عودته تعني فتح المجال أمام تفكيك هذه المؤسسة الأفريقية، إلى غير ذلك من الذرائع المغرضة.
فماذا تغير قبيل انعقاد القمة مما يستدعي هذه الاستدارة غير المسبوقة للدعاية الجزائرية من اعتبار دخول المغرب كارثة على أفريقيا، إلى اعتباره انتصارا لسياساتها الداعمة للانفصال واستراتيجيتها التفتيتية؟
باختصار شديد يمكن القول، انطلاقا من خطاب الملك محمد السادس في أديس أبابا، إن العبرة تكمن في اختلاف الديناميكية والسياق، وليس في الإيحاءات غير المضبوطة لهذا أو ذاك أو تأويله الخاص والمغرض لقرار المغرب العمل من داخل الاتحاد الأفريقي، بعد تحركه خارج الإطار القاري الرسمي لأفريقيا لأكثر من ثلاثة عقود.
إن ديناميكية الانسحاب من منظمة الوحدة الأفريقية هي ديناميكية كان فيها المغرب تحت وابل من الضغوط الجزائرية على مختلف المستويات، بما في ذلك العسكرية عبر وكيلتها الانفصالية البوليساريو، أدت إلى عزلته داخل القارة وهو ما عبّر عنه خطاب الملك بأن الانسحاب كان قرارا ضروريا في حينه. غير أن ديناميكية اليوم هي ديناميكية مراكمة لمكاسب مرحلة بأكملها، من تفنيد ادعاءات خصوم المغرب، الواحد بعد الآخر، حيث تبيّن لأفريقيا، شعوبا وقادة، أن كل ما قيل ويقال عن أهداف المغرب ونواياه غير الودية المزعومة هو من نسج خيال دعاية متهافتة ليس لها أن تصمد إلى ما لا نهاية، وذلك بفضل الممارسات الواقعية للدولة المغربية في سياق استراتيجيتها جنوب – جنوب القائمة على الشراكات والتكافؤ والندية، بعيدا عن سياسات الإملاء التي خبرتها مختلف الدول خلال تعاملها مع عدد من خصوم وحدتها الترابية.
*نقلاً عن " العرب "
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة