يتعلق مستقبل الاستقرار في الأسواق على توقعات تعافي الطلب من ناحية، وتكيف العرض من ناحية أخرى.
ارتفعت أسعار النفط خلال الأسابيع الثلاثة الماضية، وباتت العوامل الدافعة نحو الاستقرار في الأسواق العالمية متوفرة منذ بداية هذا الشهر مع بدء تطبيق خطة خفض الإنتاج المتفق عليها في إطار تجمع أوبك البالغ قدرها 9.7 مليون برميل يوميا، ومع بدء العديد من البلدان في الوقت ذاته تخفيف الإجراءات التي كان معمول بها لاحتواء تفشي فيروس كورونا، وتتركز الأنظار الآن أكثر على مستقبل أسواق النفط ومستوى الأسعار المنتظر.
ويعتمد مستقبل الأسواق والأسعار بالطبع على ما ينتظر من تحركات في أساسيات السوق من عرض وطلب.
طلب يتهاوى ويتعافى ببطء في مقال لوزير المالية المكسيكي السابق والرئيس السابق لشركة النفط الحكومية المكسيكية "بيمكس" جوزيه أنطونيو جونزاليس أشار إلى أنه فيما يتعلق بالطلب والعرض فالتوقع هو عدم استعادة الطلب لمستوياته السابقة بسرعة حتى بعد انتهاء الجائحة، والتعويل من ثم هو على تكيف العرض حتى يمكن تحقيق الاستقرار المنشود في الأسواق.
كان العالم ينتج ويستهلك نحو 100 مليون برميل يوميا من النفط قبل تفشي الفيروس، وأتت قواعد التباعد الاجتماعي وحظر التحرك واغلاقات الأنشطة الإنتاجية التي ترمي إلى احتواء الوباء لتسبب تدهورا شديدا في الطلب العالمي.
وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن استهلاك العالم من النفط سيبلغ نحو 92.6 مليون برميل في المتوسط في العام الحالي، وهو ما يقل بنحو 8.1 مليون برميل يوميا مقارنة بالمتوسط الذي كان متحققا خلال العام الماضي. بينما ذكرت منظمة الأوبك في تقريرها الشهري الصادر يوم 13 مايو الحالي أنها تتوقع انكماش الطلب العالمي بمقدار 9.07 مليون برميل يوميا، أي بما يعادل 9.1%، وكانت المنظمة قد توقعت في تقريرها عن شهر أبريل الماضي انكماشا في الطلب العالمي بمقدار 6.85 مليون برميل فقط أي أن التوقعات مع مرور الزمن صارت أسوأ.
في نفس الوقت نجد أن مخزونات النفط المتاحة في أنحاء العالم كافة قد قاربت على الامتلاء. فبينما كان من المعتاد أن تحتفظ دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية التي تضم الدول الصناعية الرئيسية في العالم بمخزون يعادل 60 يوما من الإمدادات التي تتلقاها، نجد أن هذه الدول تحتفظ الآن بمخزون يصل إلى نحو 85 يوما من هذه الإمدادات.
يتعلق مستقبل الاستقرار في الأسواق على توقعات تعافي الطلب من ناحية، وتكيف العرض من ناحية أخرى.
وتتوقع إدارة معلومات الطاقة الأمريكية أن المخزونات سوف تنمو في العام الحالي بمقدار 2.6 مليون برميل يوميا في المتوسط وهو أكبر معدل نمو لبناء المخزون على مدى الأربعين عاما التي قامت فيها إدارة معلومات الطاقة بتتبع المخزون العالمي. يمكن القول إذا أن مستودعات التخزين العالمية قد شارفت على الامتلاء وهناك قدرة محدودة في المدى القصير على زيادة سعة التخزين. وهو ما يساهم في انخفاض الطلب أكثر مستقبلا.
كان من الطبيعي أن ينجم عن تدهور الطلب وتضخم المخزونات بشكل غير مسبوق انهيار تاريخي في أسعار النفط، وبحيث وصلت أسعار بعض الأنواع مثل خام غرب تكساس المتوسط و سلة خامات التصدير المكسيكية لمستوى سلبي وهي المرة الأولى التي تحدث فيها مثل هذه الظاهرة.
ويتعلق مستقبل الاستقرار في الأسواق على توقعات تعافي الطلب من ناحية، وتكيف العرض من ناحية أخرى. ونجد بداية أن دول العالم كافة تسعى لتنشيط اقتصاداتها عبر تبنيها لأكبر خطط إنعاش نقدية ومالية تاريخيا، فإلى جانب التوسع النقدي التقليدي في العديد من البلدان، قامت حكومات بلدان مجموعة العشرين بتبني خطط التحفيز المالي غير مسبوقة. حيث بلغ مقدار هذه الخطط نحو 8% من الناتج المحلي الإجمالي لدول المجموعة.
وخطط الحفز كبيرة بشكل خاص في دول مثل المملكة المتحدة حيث بلغت نحو 17% من الناتج المحلي الإجمالي، بينما بلغت في فرنسا 15% من الناتج، وفي ألمانيا 14%، وبما يزيد على 10% في الولايات المتحدة الأمريكية. ولا جدال أن هذه الخطط تدفع نحو زيادة الطلب على النفط مع زيادة النشاط الاقتصادي.
ولكن علينا أن نضع في الاعتبار كما يشير أنطونيو جونزاليس إلى أن الأزمة الراهنة ليست أزمة اقتصادية تقليدية حيث لن يكون حفز الاقتصاد بسيطا ببساطة الأمور في الأحوال العادية بتشجيع المواطنين على الحركة والاستهلاك. فحتى مع تخفيف قواعد التباعد الاجتماعي ستظل العديد من مجالات الأعمال تواجه قيودا على ممارسة الأعمال، من التباعد بين الأفراد في مكان العمل إلى مشكلات سلاسل الإمداد.
إلى جانب ذلك ربما يتردد المستهلكون في العودة إلى أسلوب حياتهم القديم، بما يعني أن بعض القطاعات مثل السياحة والنقل الجوي سوف تستمر في محاولة الخروج من الأزمة لفترة طويلة بعد رفع الحظر المفروض عليها، ولن تستعيد مستوياتها السابقة سوى بعد مرور عدة أعوام.
عرض يتكيف بسرعة
أما على جانب العرض فيمكن الإشارة إلى عدد من الأمور المشجعة. حيث نجد أن مستوى التزام أطراف أوبك بالاتفاق الذي تم التوصل إليه بخفض الإنتاج منذ بداية هذا الشهر مرتفع للغاية، أضف إلى ذلك المبادرة المشتركة التي تبنتها كل من المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات ودولة الكويت بخفض طوعي في إنتاجها مقداره 1.18 مليون برميل يوميا بدءا من شهر يونيو المقبل.
الأمر الآخر هو إمكانية انخفاض الإنتاج بشكل كبير خاصة إنتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري.
الحقول التقليدية كانت تتطلب رأس مال أولي كبير، لكن بمجرد الإنتاج تكون التكلفة الجارية للإنتاج منخفضة للغاية مما يصعب من مهمة إغلاق الحقول، لكن مع زيادة إنتاج النفط الصخري ارتفعت التكلفة الحدية لإنتاج النفط بشكل كبير.
ولهذا فمع انخفاض الأسعار إلى مستوى يقل عن مستوى التعادل بين التكلفة والعائد، سيكون رد الفعل الطبيعي هو تعليق الإنتاج. وهذا يفسر انخفاض الإنتاج الأمريكي الذي يشكل النفط الصخري القسم الأعظم منه بمقدار مليون برميل مقارنة بمستوى الإنتاج القياسي الذي تم تسجيله في شهر مارس والذي بلغ 13.1 مليون برميل يوميا. ويتوقع العديد من المحللين انخفاضا آخر بكمية مساوية في الشهور المقبلة، وهو ما يدلل عليه انخفاض كبير في عدد الحفارات النفطية في مناطق إنتاج النفط الصخري.
إلى جانب هذا هناك أفكار بأن يتم الدعوة خلال اجتماع أطراف أوبك في الشهر القادم للاستمرار في مستوى خفض الإنتاج الراهن أي 9.7 مليون برميل يوميا حتى نهاية السنة، وعدم تقليل الخفض إلى 7.7 مليون برميل يوميا كما ينص الاتفاق بداية من شهر يوليو المقبل وحتى نهاية العام.
ويتوقع البعض إذا انخفاض الطلب على النفط خلال العام الحالي، ويتوقعون عدم استعادة هذا الطلب لمستوياته السابقة على تفشي فيروس كورونا مقارنة بما كان يحدث في أزمات سابقة، حيث كان الطلب ينتعش بسرعة خلال عدة شهور قليلة مثلما حدث في أعقاب الأزمة المالية العالمية في عام 2008 على سبيل المثال.
ولا جدال أن هذا الانخفاض في الطلب يُصعب من مهمة استعادة استقرار أسواق النفط ومستوى الأسعار، إلا أنه من الواضح أيضا أن تكيف العرض خلال الأزمة الحالية غير مسبوق كذلك، ويتمثل ذلك في مستوى تاريخي من خفض إنتاج دول أوبك إلى جانب خفض طوعي إضافي في إنتاج كل من السعودية والإمارات والكويت، مع انخفاض في إنتاج بعض الدول المنتجة الكبيرة مثل الولايات المتحدة تحت تأثير الانخفاض الشديد في الأسعار.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة