الأسرة السوية هي لبنة بناء المجتمعات وأساسها، وحين ينضرب بناء الأسرة بفعل الطلاق، الذي شاعت نسبته في المجتمع المصري مؤخرا، لا يدفع ثمن هذه الفوضى إلا أبناء الجيل الجديد.
الزواج مؤسسة يتشارك فيها اثنان، لكل منهما واجبات وحقوق، ولكن هل هذه المؤسسة قادرة على التوسع واستضافة عضو/طفل جديد؟ هذا ما يجب أن يسأله الزوجان/الشريكان لأنفسهم قبل أن يجدوا أنفسهم وقد ورّطوا شريكا في الحياة وهما غير مؤهلين للدفاع عنه وعن مصالحه.
للأسف اعتادت مجتمعاتنا أن تدفع بالعروسين المستجدين نحو الإنجاب السريع، كعلامة على الإنجاز الحياتي، التالي لإنجاز الزواج نفسه، لكن لا أحد يسائل الزوجين: هل أنتما على استعداد لدفع ثمن الإنجاب نفسيا؟ هل أنتما على قدر هذا العزم الشديد المطلوب منكما لإخراج ولد صالح نافع لنفسه ومجتمعه؟ هل أنتما مؤهلان ومدعومان بمفاهيم التربية الحديثة لضمان خروج منتج فعال في المجتمع؟
آه.. نسيت أن أبلغ الزوجين الكريمين أن "الطفل مش بييجي برزقه" كما علمتنا تقاليدنا المسهلكة، وأن "الأيام لا تربي ولا تعلّم".. فالرزق يأتي به التعب والعمل أخذا بأسباب الرزق كما أمرنا الخالق، ومن يربّي الطفل هما أبواه أولا، ثم بيئته التعليمية الأكاديمية، ولسنا في حاجة إلى جعل الإنسان ينبت في هذه الحياة بلا رقيب أو معين أو توجيه معنوي كأنه أُلقي في صحراء بلا دليل يحميه ويُنضجه ويملؤه معرفة وتربية وعلمًا.
إحصائيات الطلاق في مصر تجعلني أقول إنه لو كان الأمر بيدي لوضعت شروطا للإنجاب ملزمة لكل أب وأم قبل أن يخوضا التجربة، أولها التأكد من السلامة النفسية والعقلية لهما، وثانيها وضع استراتيجية مفصلة لتأمين حياة الطفل التعليمية والصحية، وثالثها توفير بيئة مناسبة لتربية طفل سوي.
تخيفنا أيامنا هذه بما تحمله من انفتاح عالمي، نرى صداه في أبنائنا التائهين بين التردي القيمي والفساد الأخلاقي والعنف.. كل هذا نتاج عالم بلا قوانين تسود فيها القوة والفوضى، وما زيجاتنا وطلاقنا المتعجل إلا جزء من تلك الفوضى التي تضرب المجتمعات التي فقدت بوصلتها، ولا يتبقى لنا في النهاية إلا أطفال غير أسوياء يدخلون مفرمة الحياة بلا ذنب ليتحولوا إلى كتل من الأمراض والأعباء النفسية على أسرهم ومجتمعاتهم.
طبقا لمنظمة الصحة العالمية، هناك 23 مليون طفل ومراهق يعانون من الاكتئاب، و58 مليون طفل ومراهق يعانون من اضطرابات القلق، وذكرت المنظمة في تقرير لها حول الصحة النفسية للمراهقين أن هناك واحدًا من كل سبعة أشخاص تتراوح أعمارهم بين 10 و19 عامًا يعاني من اضطراب نفسي، وذلك لظروفه المعيشية أو التمييز أو الإقصاء أو عدم حصوله على دعم أسري.
ترجع مثل هذه المآسي بالطبع للخطوة الأولى عند الزواج، فعدم معرفة الزوجين بواجباتهما تجاه أبنائهم يدخلنا في دوامة التجريب، وربما ترك الأمور تسير كما كتب لها قدريًّا دون درس وتمعن وحرص وحذر، ودون تحصين هذا الجيل الصاعد إلى الحياة من أرحامنا إلى عالم خارجي لا يرحم ولا يترك فرصة لأحد ليلتقط أنفاسه ويقاوم.. هنا تكمن الدوامة التي تخطف أبناءنا ثم نجلس على صخرة لنبكي ونتساءل مندهشين: كيف حدث ذلك؟!
أعرف أزواجا حياتهم ليس بها إلا المشكلات، المادية والمعنوية، ولا يعيرون أبناءهم أي انتباه، حتى تقع لهم الكوترث التي قد فات أوان علاجها.. فهذا صديق لم يكتشف أن ابنه يعاني مشكلات نفسية كبيرة إلى حد فقدانه النطق وانعزاله عمن حوله، لرفضه ما يدور بين والديه من عراك وصراع، وعجزه عن تغيير واقعه المؤلم هذا، فقرر أن يعتزل عالم أسرته، الذي يؤذيه، بل والعالم كله، رافضا التواصل معه بأي صورة.
هنا يدرك أخيرا الوالدان أنهم أمام أزمة. فتبدأ رحلة البحث عن طبيب نفسي وإخصائي تخاطب لإعادة ابنهم إلى عالمهم.. لكن الأمر بالتأكيد في هذه اللحظة لم يعد سهلا كما كان في البدايات، التي كانت تستحق منا عناية أكثر.
بالعودة إلى نسب الطلاق في مصر، فقد شهدنا قفزة في حالات الطلاق وانهيار الأسر، بحسب بيان رسمي للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وذلك بنسبة 14.7% لعام 2021، وذلك مقابل زيادة طفيفة في عدد حالات الزواج خلال العام نفسه.
هنا يراودني سؤال: هل هذه الزيجات كانت مدروسة من البداية من اقتصاديا واجتماعيا ونفسيا؟ هل اختُبر الطرفان قبل دخولهما مشروع الزواج نفسيا وعقليا وقدرة على تحمل المسؤوليات والواجبات؟ وكيف انتهت هذه الزيجات؟ هل انتهت بالمحاكم والتنازع على حضانة الأطفال؟ أم انتهت بشكل ودي وحضاري يحفظ ويصون مستقبل الأبناء، الثمرة الأهم؟
أسئلة كثيرة تفرض نفسها ربما تحمينا إجاباتها المسبقة من الدخول في نفق مظلم من حكايات أسر مدمرة وأبناء في مصير مجهول تعج بهم مجتمعاتنا، بسبب أن الأسرة، الحلقة الأهم في الهرم المجتمعي، تركت مسؤوليتها أو لم تعرف عنها شيئا أصلا.
التأهيل لعالم الأبوة يناديكم، كواجب وطني ومجتمعي، قبل أن يأتي طوفان الإنجاب واختباره الصعب ونحن غير مستعدين بإجابات مقنعة.
الآراء والمعلومات الواردة في مقالات الرأي تعبر عن وجهة نظر الكاتب ولا تعكس توجّه الصحيفة